* الأوضاع في اليمن تدمي القلب ومن الصعب الاستمرار في كتابة أخبار انهيار بلدك تدريجيا. *وصلتني معلومات من عدة أشخاص تؤكد أن الهدف من اقتحام مكتب الجزيرة لم يكن مصادرة جهاز البث بل تصفية مدير المكتب جسدياً. *قناة الجزيرة وفرت لي بيئة عمل مثالية وعرضت علي العمل في أي مكان بدلا عن اليمن وكانت كريمة معي حتى اللحظة الأخيرة. *سألني ضابط أمن: "كم عندك أولاد؟" بقصد التهديد: وآخر يسأل: "متى ستأخذ أهلك إلى قطر؟". *كانت تحركاتنا سابقا في كل أنحاء البلاد، ولا أحد يسألك ماذا تفعل. والآن حتى في شوارع صنعاء يطلب منا تصريح عمل. |
وصل المدير السابق لمكتب قناة الجزيرة في صنعاء مراد هاشم إلى عاصمة الولايات المتحدة واشنطن بعد هذه المقابلة بقرابة 24 ساعة.. رحلة بعيدة قد تطول كما يقول.. رحلة صوب مستقبل آخر، هي هجرة، لكنا نتلافى هذه المفردة لأسباب تتعلق بشيء لا نعلمه في نفوسنا.. لا بأس، لكنها الحقيقة، ومراد هاشم بالفعل هاجر وقد يطول غيابه كثيرا.
في هذه المقابلة يتحدث مراد الصحفي عن أسباب الهجرة، والأجواء التي عمل في ظلها، وتفاصيل التهديدات وكثير من القضايا التي لم يتحدث عنها من قبل.
الحوار أجري في مكتب الجزيرة بالعاصمة صنعاء قبل ساعة تقريبا من مغادرته، لحظات رسمت ملامح الحزن على وجوه زملائه في المكتب لمغادرته.. المصدر أونلاين كان هناك، فكونوا معه هنا مع مراد هاشم علي عابد.
* ستغادر بعد قرابة ساعة من الآن قناة «الجزيرة» ومكتبها في صنعاء.. كيف تشعر الآن؟
- أشعر بحزن عميق لأني سأفارق أصدقاء وأعزاء وزملاء، بعضهم علاقتي به منذ الدراسة الجامعية وبعضهم منذ بداية العمل الصحفي، والزملاء في المكتب 10 سنوات.. وزملاء في الوسط الصحفي جمعتنا المهنة ومتاعبها، حلوها ومرها.. صعب أن يذهب الإنسان بعيداً، ويقطع كل هذه المسافة، مع شعور أن فترة الغياب قد تطول لسنوات كثيرة.
أنا مقدم على تجربة جديدة، وفي مكان جديد وعالم مختلف، لكن بنفس الوقت لدي الكثير من الحماس لهذه التجربة لأنها تحمل نوعاً من التجديد. صحيح أنا أعمل في الصحافة الإخبارية منذ العام 1994 حتى الآن، سواءً كانت صحافة مكتوبة أو مرئية، معارضة أو رسمية، وكذلك مستقلة في صحيفتي «الحياة» و«البيان».. أنت تعرف طابع العمل، عملت في شتى أنواع العمل الصحفي من الأخبار والتقارير والتحقيقات والمقابلات، وما سأقدم عليه هي تجربة جديدة ومختلفة، صحيح أنه ليس عملا ميدانيا لكنه في إطار العمل الصحفي..
ربما هذا يتيح وقتاً للتفكير والقراءة والتأمل والمراجعة أكثر.. هناك نوع من التهيب لكن أيضا هناك حماس كبير لدي.
* هل ترددت في الإقدام على هذه الخطوة؟
- في الواقع لا.. لماذا؟.. القرار جاء بعد تفكير طويل. تفكير مصحوب بالدوافع، مع أني متعايش مع الدوافع التي أجبرتني على اتخاذ هذا القرار.. متعايش معها بشكل يومي، والقرار أفكر به بشكل يومي مع البحث عن الخيارات والبدائل، وحين وصلت إلى قناعة بعد حوارات طويلة مع الذات، حتى أن بعض هذه الحوارات مكتوبة، كنت أتحاور مع ذاتي بشكل مكتوب على الكمبيوتر، وأقيم السلبيات والإيجابيات، وكيف سيكون المستقبل، ووصلت بعد كل هذا كله، وبعد أن كنت أقرأ كل هذه الحوارات مع الذات، وصلت إلى قناعة إن هذا القرار لا مناص منه.. وشعرت أن هذا هو الزمان والمكان المناسبين.. وأقول لك إن لدي قناعة 100% بهذا القرار.. هناك من يتخيل ويتساءل كيف أن شخصاً وصل إلى مكانة محترمة في وسيلة إعلامية محترمة لها مكانة دولية محترمة، وفيها وضع وظيفي جيد، وفريق عمل منسجم بشكل كبير.. أنا أعمل هذا في مكتب اليمن مع فريق عمل منسجم وكفء.. مكتب مهيأ وتم تهيئته بكل ما يحلم به الإعلامي، وجاءت هذه التهيئة بعد كد وتعب، لا تأتيك الأشياء إذا لم تطالب وتتابع وإذا لم يكن لديك مكانة ومصداقية عند مسؤوليك وإدارتك، فوصلنا إلى هذا الوضع الجيد.. ولكن مع ذلك في المقابل تصل إلى قناعة أنك لا تستطيع أن تستمر، ليس بسبب القناة، أو بسبب المكتب، ولكن بسبب الوضع العام في اليمن، بعد أن أصبح فيه العمل والحركة فيها كثير من الصعوبات على عكس الماضي.
نحن تعودنا في السابق التحرك في كل أنحاء البلاد، لا أحد يسألك ماذا تفعل إلا في النادر. الآن حتى في شوارع صنعاء يطلب منك تصريح عمل. هناك تضييق بشكل كبير على الحركة.. هذا التمزق والتشظي والانقسامات داخل البلد أنت كصحفي تقع في وسطها، وتجد نفسك وسط مركز تجاذبات من هذا الطرف أو ذاك. اتهامات وتخوين وتهديدات، ناهيك عن صعوبات المهنة نفسها، فتصل في مرحلة إلى حالة من الشلل والعجز عن الحركة، والعجز عن أنك تؤدي مسؤولياتك وواجباتك.. البقاء في هذه الظروف نوع من المغالطة وقلة الأمانة مع النفس ومع الآخر، وهنا تأتي هذه اللحظة من النجاح، أعتبرها نجاحاً وراضٍ عنها وإن كنت أطمع بالمزيد من العمل الإعلامي وليس الإداري، ولكن أصبحنا نشعر بالشلل في ظل هذا الوضع، فكانت لحظة القرار بالتغيير والخروج للبحث عن آفاق أخرى.
* الأسبوع الماضي سألك أحدهم حول قرار الهجرة الذي اتخذته وأسبابه، فأجبت عليه بأنك لا تستطيع الاستمرار بكتابة أخبار انهيار بلدك تدريجيا.. هل تشعر بذلك فعلا؟
- نعم هذه إحدى الأسباب.. ما نتعامل معه ليس مجرد أخبار نكتبها عن "تشيلي" أو "قرغيزيا" مثلا، وإن كانت حتى في تشيلي أو قرغيزيا أو بنجلادش، فالإنسان يتأثر، لكن هذه أخبار بلد يتشظى بالفعل. بلد يتآكل من الأطراف تقريباً، الآن إذا نظرنا جديا فسنجد أن ثمان محافظات خارج سيطرة الدولة.. وضع اقتصادي شبه منهار ومستقبل أسوأ من هذه اللحظة.. من يقرأون مستقبل اليمن خلال السنوات القادمة فإنهم يستنتجون غالبا أنه سيكون أسوأ من الراهن.. هذا الوضع في النهاية تعبيراته تأتي بشكل أخبار من هنا أو هناك، وهذه الأوضاع تدمي القلب فعلا، والإنسان لا يستطيع أن يكون متجردا من هويته، من وطنه، من ذاته، هذه الأمور هي جزء من لحمك ودمك.. خبر مقتل فلان أو كمين لفلان، وهذه المواقف السياسية التي تعبر عن انقسامات وحالة تشظٍ في النهاية تؤلمك.
هناك أمر آخر يجب طرحه، وهو الأحلام التي تسكن الإنسان دائما ويريد تحقيقها، وكان يمكن حل الإشكاليات مع الجزيرة نفسها، وقد عرض علي من قبل إدارة الجزيرة كثير من البدائل من بينها العمل في الدوحة أو مراسلاً في أي دولة أوروبية أو عربية، للأمانة كانت «الجزيرة» كريمة معي حتى آخر لحظة، لكن موضوع الأحلام وحلم الدراسات العليا وحلم الانتقال إلى بلد مثل الولايات المتحدة الأمريكية وهي بلد أنا معجب بها منذ بداية شبابي، معجب بتقدمها وعراقة القيم المدنية فيها والديمقراطية، وشعرت إنه هذي اللحظة هي المناسبة طالما فتحت لي نافذة، وهناك ترتيبات لمكان سأعمل فيه، وهو مكان محترم ويمكن من خلاله أن تتحقق أحلام كثيرة.
* تحديداً ما هي اللحظة التي جعلتك تتخذ قرار الهجرة بشكل نهائي؟
- ذات مرة كنا في زيارة للقناة في قطر، وواجهني موقف مؤلم للغاية في مطار صنعاء، أحد الضباط في المطار أخذ الجواز للتدقيق، وبعد فترة من الزمن أعاد الجواز ولاحظ أنني قلق.. فعاد إلى الصالة وقال لي: «كيف لو سحبنا منك الجواز بشكل دائم، هل ستمنحك قطر جوازاً بديلاً؟».. قد يكون تصرف فردي، لكن شعرت أننا بلا قيمة، بالفعل سألت نفسي: «أيش من وطن؟» إذا كان إنسان يمن عليك بوثيقة، أنا مثلي مثله، مواطن. كما قلت قد يكون تصرفاً فردياً لكن الحملة التي مورست ضدنا في الصحف والمواقع الالكترونية وعلى لسان المسؤولين، يعتبرك خائناً وإنك لا تحب وطنك، والنتيجة إنه يستكثر عليك هذه الوثيقة.. لحظة مؤلمة بالفعل.. لم أتألم لتهديدات بالقتل، لم أتألم لتخوين وأشياء كثيرة تقال، لكن هذه اللحظة بالفعل كانت مؤلمة للغاية.
يظل هاجس الاغتراب هاجساً عاماً، ويختلف عن مسألة قرار. نحن نتحدث الآن عن السبب المباشر وهذا بالفعل كان السبب المباشر باتخاذ القرار.. المفارقة إنه بعد هذه الحادثة باسبوع أو عشرة أيام تم اقتحام المكتب وأخذ جهاز البث من قبل السلطات، وشنت حينها حملة شرسة لم تدع أي حرمة، لا دم، لا عرض، لا مواطنة، لا شيء.
* خلال كل مراحل العمل.. أي لحظة شعرت فيها بالخوف الحقيقي؟
- هي فترة مصادرة الجهاز حينها من ثلاثة زملاء ليسوا متصلين مع بعضهم، جاءت معلومة أن المطلوب كان تصفية مدير المكتب جسديا وليس مصادرة جهاز البث..طبعا أنا تعاملت معها بهدوء لكن بالفعل شعرت بالخوف، وأنا على قناعة إلى هذه اللحظة بأن الجميع في اليمن السلطة والمعارضة ليست لديها نوايا كبيرة كالتصفية الجسدية للصحفيين وسفك الدماء بدليل أنه لم يحدث هذا حتى هذه اللحظة، وهذه ميزة ولكن في تلك اللحظة بدا الأمر وكأنه حقيقي. لم أستطع التأكد من صحة هذه المعلومة ومازلت أشك فيها، لأنني بالفعل أربأ باليمنيين سواءً كانوا في السلطة أو في المعارضة في أي موقع كانوا أن يلجأوا إلى سفك الدماء.
وللأمانة أحد المسؤولين اتصل بي قبل إعادة الجهاز، وكأنه شعر بهذه المخاوف وقال لي: «أنتم أبناؤنا وحمايتكم واجب علينا»، وأقول إن هذا الموقف من هذا المسؤول سواءً كان تصرفاً فردياً أو من موقعه كمسؤول قدرناه كثيراً أنا وزملائي في المكتب.
* هل هددت بعائلتك أو أولادك خلال فترة عملك؟
- نعم.. حدث ولكن لازلت أعتقد أن كثيراً من هذه التصرفات تتم بشكل فردي، واجتهادات من أصحابها وليس توجهاً رسمياً وذلك ناجم عن الحملة ضدنا..ولكن أقول لك حينما يتصل بك أحد ويقول لك: «كم عندك أولاد؟» مثل هذا الاتصال لم يأتِ في سياق طبيعي وتعارفي، ليجعل هذا السؤال طبيعياً ومشروعاً، ولكنه سؤال من شخص ذو مكانة وقال مباشرة: «مراد.. كم معك أولاد؟» فوجدت نفسي أرد عليه: «وأنت.. كم عندك؟».. مرة أخرى رجل ينتمي لإحدى مؤسسات الأمن يتصل بي ويسألني عن أشياء ثم ذكرت أني سأسافر إلى الدوحة، قال: «هل ستأخذ أهلك معك؟» طريقة ليست طبيعية، مع ذلك لازلت أعتبره تصرفاً فردياً نتيجة الحملة.
* حين تتعدد مثل هذه التصرفات هل يمكن أن نبقي على الاعتقاد بأنه تصرف فردي؟
- إذا أردت قناعتي بصدق وأمانة، لازلت أعتقد أنها تصرفات فردية. لكن أقول لك حتى ولو كانت تصرفات فردية فإنها أخطر أيضاً. أستبعد بالفعل أن يكون صانع القرار هو وراءها، وستظل قناعتي كذلك نتيجة للحملة وللضغط علينا لا أكثر، نتيجة تغطيتنا لحرب صعدة والحراك الجنوبي.
* ما أصعب الظروف المهنية التي عاشها مراد هاشم.. حرب صعدة أم الحراك الجنوبي؟
- حرب صعدة عرفنا فيها صعوبة شديدة في التغطية ومنعنا من التغطية في الميدان. لكن الأخطر والأكثر صعوبة هو موضوع الحراك الجنوبي، هناك حالة تشظٍ كبيرة إضافة إلى حالة الفرز المناطقي شمالي جنوبي أو حتى في إطار الجنوب نفسه.. تجد نفسك في صعوبة حيث لا تستطيع إرضاء الأطراف كلها.. نحن في الجزيرة من أكثر القنوات التي حرصت على نقل الحقيقة، حقيقة ما يحدث في الجنوب، مع مراعاتنا الضوابط الدستورية والقانونية وكذلك ميثاق الشرف الصحفي في الجزيرة الذي يحث على تجنب الفتن وإثارتها في البلدان، لكن مع ذلك كان هذا الجزء اليسير من الحقيقة مثير جدا للإزعاج من قبل البعض في السلطة لأنه لا يريده، وكذلك من قبل فصائل معينة في الحراك هي في النهاية تريد كل شيء، حتى القناة الفضائية الناطقة باسم الحراك التي تبث من الخارج غير مرضي عنها لدى فصائل الحراك.. مستحيل إرضاؤهم.. والأسوأ من هذا يفتشون عن أصلك وفصلك ويقرأون نواياك ويتهمونك في أمانتك المهنية.
* هل حدث يوما أن عرض عليك أي نوع من المساومات سواء ً المادية أو غيرها؟
- لا.. لم يحدث أي شيء من هذا القبيل، لا مساومات مادية ولا مناصب ولا غيرها.. وأقول إطلاقا لم يتم مساومتي، وأنا أعتقد أنه من السهل على الحكومة معرفة من الذي يسهل مساومته، وفي كل الأحوال أنا شخص مقتنع بمهنتي ووظيفتي. «الجزيرة» مؤسسة محترمة جداً، وتوفر لك ظروف عمل تكاد تكون مثالية، وهذا رأيي فيها حتى اللحظة الأخيرة. لولا الظروف في اليمن ما كنتُ تركت «الجزيرة» .. وببساطة في موضوع المساومات لم يكن يملأ عيني أي شيء لا منصب ولا مال، لأنه في النهاية سيكون غير مشروع لكن مع ذلك لم يتم حتى من باب محاولة العرض.
* يبدو أنك سمعت ما نشرته بعض المواقع حول أن استقالتك كانت لأسباب خلافات إدارية أو ما شابه.. كيف ترد على هذا الكلام؟
- هذا الكلام نشر تحديدا في موقعين على الانترنت، والموقعان من المواقع غير المهنية وتمولان من قبل مطبخ إعلامي معروف في السلطة أنشئا لمواجهة الحراك الجنوبي والمعارضة، والصحفيين المستقلين، فبركوا خبرا وألبسوا واقعة الاستقالة غير لباسها وأوردوا تفاصيل مزورة تماما، وهي أن هناك خلافاً مع الزملاء في المكتب وأنهم قدموا شكوى للقناة، وأن القناة استدعت مراد هاشم إلى القناة وقررت إنهاء خدماته، ولا أدري كيف غاب عن بال المفبركين كيف أن واحداً تُنهى خدماته، ويعاد لإدارة المكتب إلى آخر لحظة، ويؤتمن على كل هذه الممتلكات والأموال، ويعرض عليه بدائل وله حرية الاختيار.
* لكن ما طبيعة الرحلة إلى الدوحة في آخر أيامك؟
- الموضوع أن القناة استدعتني على خلفية تقديم الاستقالة، قدمت استقالتي مبررة وفيها الكثير من التقدير للجزيرة وأنها ليست سبباً في أي شيء، ولكن للظروف في اليمن والرغبة في الدراسات العليا. واستدعيت من قبل الإدارة وكان هناك اجتماع مع المدير العام للشبكة مع مدراء آخرين، وفي الاجتماع كما أشرت كان المدير العام كريماً جداً معي وحاول بالفعل أن يقدم حلولاً وبدائل لمسألة الخروج عن الشبكة، ولكن في النهاية كان عندي قناعة وخيارات أخرى لا تتوفر بالبقاء في إطار شبكة الجزيرة، منها قضية الدراسة في الولايات المتحدة. وفي الأخير اقتنعوا بقراري وهناك بيان سيصدر من القناة بهذا الخصوص وسيوضح كل شيء.
أما ادعاءات الموقعين من أن هناك شكوى من الزملاء. فلا توجد أي شكوى، الموضوع مفبرك تماماً، وما حدث هو العكس من ذلك، فقد وجدت كل الحميمية من الزملاء وخاصة في اللحظات الأخيرة مع الشعور بالوداع، فقد رتبوا لي حفلتي وداع من جميع الزملاء في المكتب دون استثناء، وهناك أمر آخر وقد فوجئت به ولأول مرة يحدث، وهو أن الزملاء في المكتب يقدمون شهادة لمديرهم، شهادة تقدير على حسن الإدارة والإخلاص والأمانة و...، وكان هذا كرم منهم. وبالفعل أعطوني الشيء الكثير.. وأعتقد أن الإنسان عندما يتعامل مع الآخرين بمساحة من الود والمحبة والتفاهم والصبر تكون في النهاية هذه الثمرة.. نحن في المكتب نكاد نكون أسرة واحدة، حتى مشاكلنا صغيرة، منذ سبع سنوات لم يسمع أحد إطلاقا عن مشكلة في مكتب «الجزيرة».
* هل هذا ما ستفتقده في «الجزيرة»؟
- نعم بالتأكيد.. سأفتقد زملائي، وسأفتقد هذه البيئة في العمل، هذا فريق عمل رائع جداً، وبالتالي أردد ما قلته في احتفالية نقابة الصحفيين بتكريمي، حين قلت في النهاية ما يعتبره الزملاء نجاحا لمراد هاشم، كان هناك فريق عمل وجنود مجهولون وراء هذا النجاح، ومن حقنا أن ننصفهم جميعا واحدا واحدا في مكتب قناة الجزيرة بصنعاء، بيئة العمل نفسها في القناة ساهمت في هذا النجاح، تعاون الجميع. ولا يمكن أن ينجح أحد بدون تعاون أطراف كثيرة وبينها تعاون الكثيرين من خارج الأسرة الصحفية، هناك أشخاص كثيرون ساعدونا من مواقعهم.
* ما أفضل عمل قمت به وتشعر أنه الأفضل؟
- لا يوجد هناك عمل محدد أستطيع أميزه. أنا عملت مئات التقارير، ومئات المقابلات الحية والمسجلة ومئات البرامج، في إطار لقاء اليوم، ووثائقية وحلقات مباشرة مثل قراءة الصحف ولقاء المنتصف لعشرات المرات، وحلقات مباشرة للجزيرة مباشر سواءً برامج رمضانية وغيرها، ولكن هذا ليس الأهم.. ما أعتز به هو هذا المكتب وهذا الفريق هو أنه نأى بنفسه عن الاستقطابات، لفترات كثيرة وحين تشتد حالات الصراع تشتد حالات الاستقطاب، أنت مع من أو ضد من؟، ومن أجل ذلك تجد البعض في الوسط الصحفي يصطف مع هذا والبعض مع ذاك، ولكن نحن حافظنا على مسافة واحدة من الجميع رغم أنه نجد الأذى أحيانا، من السلطة تحديدا ولكن هذا لم يؤثر في أدائنا، ولم نتحول إلى عدائيين في تغطيتنا. صحيح لم نقترب منهم أكثر ولكن بذات الوقت لم نبتعد أكثر أيضاً. عملنا على مساحة فيها المعايير المهنية هي الحاكمة، ونفس الشيء ينطبق على الآخرين.. الحراك الجنوبي نفس الشيء رغم اتهامات بعض فصائله لنا، لكن أعتقد أننا كنا النافذة التلفزيونية الوحيدة التي تبث نشاطاته وحركته وفعالياته وبقدر كبير من الشفافية، نحن المتهمون وليس أحد آخر.. أعتقد أن النأي بالمكتب من الاستقطابات والقرب والبعد في الوقت نفسه شكّل معادلة معقولة من النجاح.
* ما هو العمل الذي أنجزته ولم يرضِك؟
- هذه المقابلة.. يضحك.
* عملت فترة طويلة بعد تخرجك من القاهرة هنا في الصحافة اليمنية: في «رأي» و«الشورى» و«الثورة».. ثم «البيان» و«الحياة» ثم «الجزيرة»، ماهو أفضل مكان عملت فيه؟
- هذا التنوع كان مفيداً جداً، العمل في أكثر من صحيفة معارضة بالمجمل كان فيه مهنية، وكذلك العمل في صحيفة رسمية من موقع مختلف، والعمل في صحافة مستقلة مثل «البيان» الإماراتية و«الحياة» اللندنية، ثم العمل في صحافة مستقلة في «الجزيرة»، يحدث نوع من التنوع في الخبرة والتعامل مع المادة الصحفية من زوايا مختلفة، يعطيك شمولاً في التقييم.
الأهم في هذه التجربة كلها والأكثر تأثيراً فيًّ هي «الجزيرة» الدرجة الأولى، وتركت بصمة مؤثرة جدا في حياتي الصحفية. كنت في البداية صحفياً ليس تليفزيونياً ولكن مع «الجزيرة» بدأت كما أعتقد من الصفر، والآن الحمد لدي خبرات ليس فقط كصحفي تليفزيوني ولكن حتى في الأمور الفنية، في المونتاج والتصوير والبث، أشياء كثيرة كان هناك دافع وحافز كبير أن أتعلمها ولم يكن مطلوباً مني ذلك.
قبلها تأتي تجربة صحيفة «الحياة»، وهذه الصحيفة بالفعل تجربتي فيها كانت مفيدة جدا، و«الحياة» مدرسة محترمة جداً، في تقاليدها الصحفية، في أساليبها التحريرية فكانت هذه التجربة مفيدة أيضاً.
* من هم الأشخاص الذين يحمل لهم مراد هاشم شيئاً من الجميل منذ بداية حياته المهنية؟
- بالتأكيد هناك أساتذة نتتلمذ على أيديهم، أتذكر من الأسماء التي أثرت في مثلا عبدالحليم سيف في الثورة، عبدالله سعد في الشورى، نصر طه مصطفى لم يكن أستاذا فقط ولكن كان أخا أكبر منذ بدأت لحظات عملي وحتى اللحظة، لا يبخل بالمشورة، بالنصح، بالعون.. حمود منصر في بداية حياتي المهنية، بالفعل هذا الرجل أستاذ ومهني محترف، واستفدت منه كثيراً.. نعمان قائد سيف من الناس الذين تأثرت به بشكل كبير، هذا الرجل ذو نزعة استقلالية غير عادية. أتذكر في بداية حياتي الصحفية بعد قرابة 7 أشهر من تخرجي سألته أن ينصحني نصيحة، وكان الوقت بعد أشهر من انتهاء صيف 1994 والبلد لازال يعالج جراحه الناجمة عن الحرب، وقبلها الأزمة السياسية، فقال لي: «لا تعلن موقفاً سياسياً».. بالمعنى إنه ابقَ صحفياً محترفاً وقريباً من الكل، هذا تفسيري لتلك النصيحة. صحيح الصحفي بالتأكيد له موقف، لكن تجنبي كتابة الرأي ساعدني أن أبقى قريباً من الجميع ومقبولاً من الكل، وأعتقد هذا الذي جعل هذا المشوار يمضي بقبول من جميع الأطراف، على الأقل هذا ما ألمسه.
طبعاً هناك أشخاص آخرون كثر لا يمكن للإنسان أن ينجح إلا بتعاونهم، لكن هذه أبرز الأسماء التي أكن لها احتراماً وتقديراً كبيرين.