أخبار الساعة » دراسات ومتابعات » دراسات وتقارير

اليمن الجمهوري..نصف قرن من الصراع

- د.عبدالله أبوالغيث

في سبتمبر الحالي ستحتفل اليمن بالذكرى الخمسين لقيام ثورة 26 سبتمبر 1962م وقيام النظام الجمهوري في اليمن على أنقاض نظام الإمامة الكهنوتي البائد، ورغم مرور هذه المدة الطويلة على قيام الجمهورية إلا أن اليمنيين لم يتمكنوا حتى الآن من تأسيس دولتهم الديمقراطية الحديثة والمزدهرة التي يطمحون إليها، وذلك بسبب الصراعات التي شابت تاريخ اليمن في عصرها الجمهوري، والتي سنستعرض ملامحها هنا أملاً في تجنبها وعدم إعادة انتاجها في مستقبلنا الآتي.

   وتلجأ بعض البلدان إلى تقسيم تاريخها الجمهوري إلى جمهوريات متوالية (أولى وثانية...إلخ) معتمدة على اختلاف الملامح بين فتراتها المختلفة، كما هو الحال في فرنسا التي تعيش الآن في عصر الجمهورية الخامسة التي بدأت في عام 1958م. وكذلك مصر العربية التي يتحدث ثوارها عن الجمهورية الثانية التي نتجت عن ثورة يناير الشعبية 2011م، مقابل الجمهورية الأولى الناتجة عن ثورة يوليو 52م، وإن كان هناك من يرى بأن مصر أصبحت تعيش بعد ثورتها الشعبية في عصر الجمهورية الثالثة، على أساس أن عصر الجمهورية الأولى يقتصر على عصر محمد نجيب وجمال عبد الناصر، بينما يمثل عصر السادات ومبارك جمهورية ثانية نظراً لتشابه عهديهما وتميزه في كثير من ملامحة عن العصر الناصري؛ خصوصاً بعد الحركة التصحيحية التي أعلنها السادات في بداية عهده.

   وفي اليمن بات هذا المصطلح يتردد هنا أو هناك، لكنه يقدم على أساس اعتبار عصر كل رئيس بمثابة جمهورية منفصلة بحد ذاته، من غير اعتماد أصحاب ذلك التقسيم على منهج أو قياس واضح، وعادة ما ينطلقون في تقسيمهم من منظور تشطيري في معظم الأحيان، لذلك فقد صرنا نسمع بعضهم يتحدثون عن الجمهورية السادسة لعهد الرئيس هادي في اليمن؛ التي ستصبح السابعة إذا أخذناها من منظور جنوبي. وهذا ما جعلنا نقترح من خلال هذه المقالة تقسيم العصر الجمهوري في اليمن إلى أربع جمهوريات تشمل كل منها فترة محددة ومميزة من تاريخ اليمن الجمهوري.

الجمهورية الأولى

   الجمهورية الأولى مصطلح يمكن إطلاقة على دولة الجمهورية العربية اليمنية التي قامت في شمال اليمن منذ ثورة سبتمبر62م وانتهت بقيام دولة الوحدة اليمنية في مايو90م. وقد غرقت هذه الجمهورية في الصراع منذ الأيام الأولى لإعلانها، وكان ذلك بسبب تكالب قوى الثورة الإمامية المضادة التي قادها بيت حميد الدين وأعوانهم بمساعدة قوى إقليمية ودولية خشية من التغيير الذي يمكن أن تحدثه الدولة الجديدة في اليمن والإقليم المجاور، وقد كانت بريطانيا والسعودية والأردن وإيران في مقدمة تلك القوى. بينما حظيت الثورة الجمهورية بدعم فريق آخر من القوى الإقليمية والدولية مثل مصر وروسيا.

   استمرت المعارك الطاحنة بين القوى الجمهورية والملكية في مناطق شمال الشمال حتى حصار السبعين يوماً الذي تعرضت له مدينة صنعاء من قبل القوات الملكية (أواخر عام 67 مطلع 68م)، حيث مثل اندحار حصارها نقطة اليأس لها ولأنصارها الخارجيين من إعادة فرض النظام الإمامي وبدأوا بالتعامل مع النظام الجمهوري كأمر واقع. لكن توقف الصراع مع الإماميين سرعان ما فجر الصراع داخل الصف الجمهوري بين القوى اليسارية والقوى التقليدية؛ الذي أتخذ بعداً طائفياً في أحداث أغسطس 68م وفجر جروحاً لم تندمل إلى اليوم.

   وقد أدى صعود الشهيد الحمدي إلى سدة الحكم إثر حركة يونيو التصحيحية 74م إلى إعادة الاعتبار لدولة الحداثة والعدالة والمساواة التي كان ينشدها الثوار، لكن القوى المهيمنة على مقدرات الشطر الشمالي (الداخلية والخارجية) سرعان ما تأمرت على نقطة الضوء التي مثلها عهد الحمدي وقامت بتصفيته على مائدة الغداء الأخير في 77م قبيل زيارته المزمعة إلى عدن للمشاركة في احتفالات ثورة اكتوبر المجيدة، فخلفه القتلة على كرسي السلطة؛ حيث حكم أحمد الغشمي بضعة أشهر قبل أن يتم تصفيته بحقيبة ملغومة حملها مبعوث قادم من عدن، ومن بعده علي عبدالله صالح الذي استمر رئيساً حتى قيام دولة الوحدة وما بعدها.

   تجدر الإشارة أن هذه الفترة قد شهدت حرب شرسة بين الجبهة الوطنية الديمقراطية المدعومة من دولة الجنوب مع سلطات الدولة في الشمال مدعومة بقوى التيار الإسلامي، وهي الحرب التي توقفت في مطلع الثمانينات إثر تولي الرئيس على ناصر محمد دفة السلطة في الجنوب. إلى جانب ذلك فقد شهد الشمال العديد من الحروب القبلية؛ كان كثير منها يتم بتحريض من سلطات الدولة وبدعم من خزينتها ومعسكراتها، عملاً بالمقولة الشهيرة "فرق تسد".

الجمهورية الثانية

   مصطلح الجمهورية الثانية يمكن إطلاقة على جمهورية اليمن الديمقراطية التي قامت في الشطر الجنوبي من اليمن بعد استقلاله عن الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر 67م إثر ثورة كفاح مسلح استمرت قرابة أربع سنوات، وانتهت بإعلان الوحدة اليمنية بين الدولتين الشطريتين.

      تجدر الاشارة أن الثوار في الجنوب فضلوا إقامة دولة خاصة بهم  بديلاً للوحدة مع الشمال لكون الاستقلال قد تم بُعيد أسابيع من انقلاب 5 نوفمبر الذي أطاح بالرئيس عبدالله السلال وأوصل القوي التقليدية إلى السلطة في الشمال بقيادة القاضي عبدالرحمن الإرياني، حيث دفع ذلك بالجبهة القومية ذات التوجه الاشتراكي لتعلن الجنوب دولة مستقلة إلى حين توفر الشروط الملائمة لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية، بينما كانت القوى الحاكمة في الشمال ترى أن الجنوب فرع سلخه الاستعمار عن أصله ومن الطبيعي أن يعود بعد الاستقلال إلى الوطن الأم.

    يحسب لحكومات الجبهة القومية (الحزب الاشتراكي فيما بعد) التي تعاقبت على حكم الشطر الجنوبي من اليمن قدرتها على فرض سلطة الدولة على كل أراضيها ، بعد أن تمكنت من اتخاذ قرار أنهت بموجبه الثارات القبلية والشخصية، وزرعت هيبة  القانون لدى كل مواطنيها، إلا أنه يؤخذ على نظام الحكم في الجنوب فرضه للماركسية كفكر وحيد للحكم، وتنكيله الدموي بخصومه المعارضين له، بل وتوالى دورات الانقلابات الدموية بين الرفاق داخل الحزب الاشتراكي نفسه، ابتداء بانقلاب 69م الذي أطاح بقحطان الشعبي تحت يافطة تصفية اليمين الانتهازي، ومروراً بانقلاب 78م الذي أطاح بخليفته سالم ربيع علي وانتهى بإعدامه مع مجموعة من المحسوبين عليه، ثم انقلاب 80م الذي أطاح بعبد الفتاح اسماعيل، وانتهاءً بانقلاب 86م الذي أطاح بعلى ناصر محمد وأتى بعلي سالم البيض زعيماً للحزب وقائداً أول للدولة، وهو الذي وقع اتفاقية الوحدة مع الرئيس الشمالي علي عبدالله صالح.

الجمهورية الثالثة

   تكاتفت الظروف الداخلية لشطري اليمن مع الظروف الإقليمية والدولية لتساعد على إعلان دولة الوحدة في اليمن في مايو90م ممثلة بالجمهورية اليمنية، وهي ما يمكننا تسميتها بالجمهورية الثالثة.

   حري بالذكر أن الدولتين الشطريتين كانتا قد دخلتا في صدامين مسلحين عام 72م وعام 79م، وكانت تنبثق من رحم كل صدام اتفاقيات صوب إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، وهي الوحدة التي تحققت في نهاية المطاف إثر إنجاز لجنة مشتركة لدستور دولة الوحدة الذي تم الاستفتاء عليه بعيد إعلان قيام الجمهورية اليمنية.

   تطورت الأمور بين شريكي الوحدة (المؤتمر الشعبي والحزب الاشتراكي) إلى صدام دموي مسلح في صيف 94م انتهى بانتصار الطرف الأول بقيادة علي عبدالله صالح الذي صادر كل اتفاقيات الوحدة  وأخضع الجنوب لقوى الفيد والنهب التي أكلت الأخضر واليابس، ثم تفرغ نظام صنعاء بعد ذلك لتفجير ستة حروب في صعدة مع جماعة الحوثي (2004-2010م) لا ندري حتى اليوم لماذا كانت تشتعل وكيف كانت تتوقف.

الجمهورية الرابعة

   تكاتفت الأوضاع الفاسدة والمستبدة التي أدخل فيها نظام الرئيس صالح اليمن لتشعل ثورة شعبية سلمية عارمة كانت انطلاقتها الأولى من تعز في 11 فبراير2011م، انتهت بعزل صالح عن كرسي السلطة وإيصال الرئيس عبدربه هادي إليها عبر انتخابات توافقية تمت في 21 فبراير 2012م بموجب المبادرة الخليجية التي وقعها صالح تحت ضغط جماهير الثورة الشعبية الهادرة، وبرحيل صالح يمكننا الحديث عن الجمهورية الرابعة، التي نستطيع القول أن اليمن ستدخل خلالها في مرحلة جديدة ستفرق كثيراً عن ظروف وملامح الجمهورية الثالثة.

   والمؤمل أن تتكاتف جهود جميع الأطراف الفاعلة على الساحة اليمنية لتفعيل وإنجاح الحوار الوطني، والتوافق على صياغة دستور جديد، مع إعداد قوانين جديدة توقف دورات الصراع الدموية التي شهدتها اليمن ومازالت خصوصاً خلال تاريخها المعاصر.

   وذلك لن يتم إلا بتكريس ثقافة التعايش فيما بيننا ورفض سياسات الإقصاء، والعمل سوياً من أجل بناء دولة مدنية رشيدة يتساوى فيها جميع أبناء شعبها في الحقوق والواجبات، وتتوزع سلطاتها وثرواتها بصورة عادلة. دولة تقوم على أساس المواطنة المتساوية والتداول السلمي الديمقراطي الآمن للسلطة عبر الانتخابات الشعبية الحرة والنزيهة، من غير أن نسمح لأي طرف بالانفراد بسلطات البلد وثرواتها وفقاً لدعاوي وانتماءات ضيقة وباطلة؛ سواءً تمثلت بالانتماءات الحزبية أو المذهبية أو المناطقية أو القبلية أو السلالية أو الأسرية أوغيرها من الانتماءات العنصرية المقيتة.

Total time: 0.0665