أخبار الساعة » جرائم وحوادث » حوادث وجرائم

تفاصيل عملية تهريب عميل الموساد المتهم باغتيال الشهيد المبحوح

- عبد الكريم الحزمي
لم يُخف المسؤولون في دولة الإمارات خيبة أملهم إزاء قرار السلطات الألمانية إخلاء سبيل عميل كبير لجهاز الموساد الإسرائيلي المتورط بعملية اغتيال محمود المبحوح، أحد قياديي حركة حماس في دبي، في يناير الماضي .
وقد أعربت وزارة الخارجية الإماراتية عن رغبتها في متابعة المسألة في بيان أصدرته بعد قليل من صدور قرار إخلاء سبيل عميل الموساد، وهو مستوى من التعبير يظهر حجم الغضب والقلق والانزعاج الذي ساد الدوائر الإماراتية.

فما هي حقيقة ما جرى خلال السبعين يوما التي تلت سقوط عميل الموساد في قبضة أجهزة الأمن البولندية والألمانية؟ وهل نجحت إسرائيل حقاً - وبأي ثمن- في التخلص موقتاً من ورطة دبلوماسية خطرة كانت ستهدد بتحويل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى مطلوب للعدالة الدولية والإنتربول؟!.

من هو برودسكي؟

يعتبر العميل الإسرائيلي الذي يحمل اسم يوري برودسكي، أحد أخطر رجال الموساد العاملين في أوروبا، بحسب مصادر مطلعة على مسار التحقيق. وقد شكل سقوطه في قبضة رجال الأمن البولنديين سابقة من نوعها في تاريخ جهاز الموساد الذي سبق له أن تعرض لإخفاقات علنية مخزية.

وقد سبق أن اعتقل عناصر تنفيذيون تابعون للموساد في كل من سويسرا وليلهامر ونيوزيلندا وعمان وسويسرا وقبرص، بالإضافة إلى أوسلو عقب حادثة اغتيال النادل المغربي، أحمد بوشبكي، عام 1973 والتي أدت إلى اعتقال ستة من أعضاء الموساد ومحاكمتهم وإدانتهم. كما أدت محاولة الاغتيال الفاشلة لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، في عمان عام 1997، إلى اعتقال عنصري موساد من الخلية التنفيذية ألقى السكان القبض عليهما، وتمت مبادلتهما لاحقاً بمؤسس الحركة، الشيخ أحمد ياسين.

وباستثناء الحالتين الأخيرتين لم تحظَ عمليات اعتقال عناصر الموساد بتغطية إعلامية كبيرة، إلا أن الأمر تغير منذ أن أوقفت شرطة الحدود البولندية في مطار وارسو، في الرابع من يونيو الماضي، يوري برودسكي، لأنها كانت أول مرة يعتقل فيها عنصر موساد بموجب مذكرة جلب، وأيضاً لأنها كانت أول عملية اعتقال في العالم تقود إليها مذكرات الاعتقال الدولية التي أصدرتها شرطة دبي بحق المتورطين في قضية المبحوح.

وتقول مصادر أوروبية مطلعة على تفاصيل التحركات الإسرائيلية إنه، فور اعتقال برودسكي، تحركت السلطات الإسرائيلية وقامت بتشكيل أزمة خلية تضم عميداً من الموساد تتبعه مجموعة متابعة، توجهت في الساعات التالية إلى وارسو حيث باشرت العمل بالتنسيق مع مدير محطة الموساد في بولندا.

كما ضمت اللجنة مندوبا ًمن مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتلقى تعليماته منه مباشرة، بالإضافة إلى كبار المسؤولين في وزارات العدل والخارجية والداخلية، وخبراء إعلام من وحدة خاصة شكلتها وزارة الخارجية سابقاً، وهي وحدة مخصصة لمتابعة الأزمات الخارجية.

وأطلقت خلية الأزمة خطة طوارئ حدد هدفها الأول بمنع تقديم العميل المعتقل إلى المحاكمة في دبي. وكان هناك شعور بأن وصول برودسكي إلى قفص الاتهام سيؤدي إلى فضيحة دولية وسيعيد من جديد إحياء قضية المبحوح التي ألحقت أذى كبيرا بصورة إسرائيل، وأفقدت جهاز الموساد هيبته الخارجية، وأظهرته كجهاز يتصرف عناصره كهواة يعملون بأساليب الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي.

وعلى هذا الأساس تم وضع خطة عمل دبلوماسية تم تجنيد كل طاقات وزارة الخارجية لتنفيذها. وقد تجاوب مسؤولو الوزارة على الرغم من حالة التوتر التي تحكم علاقة الخارجية بمسؤولي الموساد، وموقف الارتياب السائد بين الجانبين والذي يصل إلى حد التنصت ومراقبة كل الدبلوماسيين الإسرائيليين الذين تواصلوا مع دبلوماسيين من دول أخرى ليست صديقة بالضرورة لإسرائيل، ممن سجلوا نجاحاً في جمع معلومات أخفق الموساد في جمعها. وهو سلوك يعيده مسؤولو الخارجية إلى غيرة عناصر الموساد وعدم اعترافهم بفشلهم المتكرر.

وتقول المصادر إن الخطة التي وضعت ركزت على ثلاثة احتمالات: الأول، النجاح في الإفراج عن برودسكي بسرعة ومن دون ضجة إعلامية، ومن دون إجراءات قانونية، بدعوى وجود خطأ في هوية المشتبه فيه. والثاني، بقاؤه قيد الاعتقال والتحرك بصورة قانونية من خلال محامين ومستشارين قانونيين يتبعون وزارتي الخارجية والعدل.

أما الاحتمال الثالث فكان احتمال وصول المعتقل إلى المرحلة الأخيرة للمحاكمة، أو تسليمه إلى دولة الإمارات. وقد طُلب من فريق الموساد أن يدرس كل الإجراءات اللازمة لمنع ذلك، وهو ما رأت فيه المصادر الأوروبية اتجاهاً لإنقاذه بالقوة أو "التخلص منه" بطريقة لا تترك دليلاً.

وتضيف المصادر أنه "على أساس هذه الخطة تم التواصل مع السلطات البولندية من خلال مدير محطة الموساد في وارسو، إلا أن البولنديين اشترطوا لإطلاق سراحه أن يقوم الألمان بسحب مذكرة الملاحقة الأوروبية التي أصدروها، في ختام تحقيق طويل قادهم إلى اكتشاف مصدر الجواز الألماني الذي استخدم في عملية اغتيال المبحوح باسم مايكل بودنهايمر".

وتقول المصادر إن الاتصالات التي أجراها البولنديون والإسرائيليون أقلقت مسؤولي الشرطة الألمانية ممن عملوا على ملف التحقيق الخاص بقضية المبحوح. لذا تحركوا بسرعة في الأيام الأولى لعملية الاعتقال لتحطيم جدار السرية التي كانت تستظل بها خلية الأزمة الإسرائيلية.

واستشعر المحققون الألمان بالخطر من كثرة الضغوط السياسية التي انصبت على المسؤولين البولنديين والألمان لكي يدفعوا ضباط الشرطة الفيديرالية الألمانية للشؤون الجنائية (BKA)إلى  تسهيل عملية إخلاء سبيل برودسكي في وارسو، وعدم مباشرة إجراءات تسليمه إلى ألمانيا.

وبناء عليه، تم تسريب الخبر إلى صحيفة ديرشبيغل التي كشفت على موقعها الإلكتروني نبأ القبض على برودسكي، ما أثار اهتماماً عالمياً بالمسألة في كل أوروبا وألمانيا ودولة الإمارات.

وشعر الإسرائيليون حينها أن المسألة قد خرجت من أيدي السياسيين، وأنها قد دخلت مرحلة التعقيد القانوني، وأن عليهم الانتقال إلى محاولة استخدام وسائل أخرى لمنع وصول عميلهم إلى قفص الاتهام، خشية أن تتحول محاكمته إلى محاكمة لسياسة إسرائيل ولجرائم الموساد وإلى توريط مباشر لرئيس الوزراء الذي يتبع إليه الجهاز مباشرة.


والجدير بالذكر أن أجهزة الأمن الألمانية كانت تشعر بالغضب لأن الإسرائيليين استخفوا بها ولأنهم تجرأوا على توريط سمعة ألمانيا في فضيحة اغتيال المبحوح، رغم التنسيق الأمني والسياسي العميق الذي يجري بين إسرائيل وألمانيا، إن في موضوع العقوبات على إيران أو مفاوضات السلام مع الفلسطينيين، أو الوساطات الألمانية لاستعادة رفات الجنود الإسرائيليين لدى حزب الله أو الجندي الأسير لدى حماس جلعاد شاليط.

وتتعامل الاستخبارات الألمانية والإسرائيلية بسخاء مع وحداتها الأخرى، سامحة للطرف الآخر بتنفيذ عمليات بكل حرية على أرض بعضهما البعض. إلا أن القانون الألماني يمنع قيام أي جهاز أجنبي بعملية أمنية من دون موافقة السلطات المعنية، وهو المبرر القانوني الذي استخدمه المحققون الألمان لملاحقة المتورطين في قضية المبحوح على أراضيهم.

ولعل أحد أبرز أسباب غضب الاستخبارات الألمانية يعود إلى كون التشكيك بجواز السفر الألماني، نتيجة اغتيال المبحوح، قد عرّض عدداً من عملائها في منطقة الشرق الأوسط إلى الخطر.وأدت العملية بأجهزة أمن عربية وإيرانية إلى التعامل بريبة مع جوازات السفر الألمانية خشية أن يكون أصحابها من عناصر الموساد.

ويعتبر القائمون على الشأن الأمني أن احتمالاً من هذا القبيل قائم وبقوة، نظراً إلى أن لا احد يستطيع أن يثبت أن كل حملة الجوازات الألمانية اليوم هم أصحابها الحقيقيون، وأن ليس بينهم عملاء موساد ينتحلون هويات ألمانية.

وينطبق الأمر على جوازات الدول الأخرى التي استخدمت في عملية الاغتيال، ومن بينها فرنسا وبريطانيا واستراليا وإيرلندا.

وخلال تحقيقها في كيفية إصدار الجواز المستخدم في الاغتيال اكتشفت أجهزة الأمن الألمانية أن شخصاً يحمل جواز سفر إسرائيلياً، ويُدعى آلكسندر فيرين، قد اجتمع في نهاية مارس 2009 مع محامٍ من مدينة كولون لمناقشته حول كيفية إنجاز معاملة تجنيس. وكان مع فيرين شخص قال إنه يُدعى مايكل بودنهايمر زعم أنه متحدر من أصول ألمانية، وأنه يريد استعادة جنسيته واستخراج جواز سفر ألماني. ورغم أن بودنهايمر كان صاحب المعاملة إلا أن فيرين الذي رتّب الموعد مع المحامي تولى معظم الحديث خلال اللقاء.

وأشارت الرواية الملفقة التي قدمها الرجلان إلى أن والدي بودنهايمر قد هاجرا إلى إسرائيل فراراً من الملاحقة النازية. وكدليل على صحة المزاعم أخرج الرجلان وثيقة زواج والدي بودنهايمر المزعوم وجواز سفر لأحدهما. وكان هدف تقديم المعلومات هو جعل المحامي يتقدم بطلب استعادة الجنسية، بموجب البند 116 من الدستور الألماني، والذي يتيح عمليات تجنيس شبه تلقائية يستفيد منها قرابة ثلاثة آلاف شخص في ألمانيا سنوياً.

وقد اكتشف المحققون لاحقاً أن الرجلين كانا ينزلان في فندق واحد، قبل أن يقوم بودنهايمر باستئجار شقة رخيصة في مبنى عادي في حي إيجلشتاين في كولون، بالقرب من محطة القطار، فوق مطعم لطلبيات البيتزا يشغل الطبقة الأرضية. وهي خطوة كان الهدف منها عدم لفت الأنظار وذر الرماد في العيون حول هويته الأصلية.

وبالفعل باشر المحامي معاملة التجنيس بصورة عادية، ثم قدّم النائب العام في 16 يونيو 2009 طلب التجنيس إلى مكتب سجلات النفوس في كولون. وما لبث أن صدر جواز سفر ألماني باسم مايكل بودنهايمر بعد يومين، وهو الجواز الذي استخدم في عملية المبحوح.

وقد فتحت هذه العملية أعين المحققين الألمان، والكثير من المحققين في دول أوروبية عدة، على الأسلوب الذي يتبعه الموساد للحصول على هويات مزيفة لعناصره، حتى لو اضطره ذلك إلى إبقاء عنصر في بلد ما لمدة شهرين أو ثلاثة، من أجل استخراج جنسية جديدة منتَحلة مع وثيقة سفر حقيقية.

وتقول المصادر إن الأوروبيين اكتشفوا من خلال عملية اغتيال المبحوح أن طريقة عمل الموساد، التي استمرت على نطاق واسع خلال العقدين الماضيين، تقوم على التعرف إلى المواطنين الإسرائيليين الذين يحملون جنسيات بلدان أخرى أو تلك التي ينحدر آباؤهم منها.

ثم تجري غربلة أسماء المرشحين لانتحال شخصيتهم، ويتم إعداد سيناريو عمل تفصيلي وخطة تتضمن موازنة مالية لكل حالة، مع إرشادات وتوجيهات قانونية لتثبيت الشخصية المنتحلة واستخراج جوازات سفر أصلية لا تثير الشكوك.

ويكون ضحايا عملية الانتحال الذين يتم اختيارهم من المواطنين الإسرائيليين الذين يتميزون بنمط حياتي  مستقر،ومن الذين لا فرصة كبيرة لديهم لاكتشاف عملية استخراج وثائق منتحلة باسمهم في بلدانهم المنشأ.

وخلال عملية المطاردة التي قام بها المحققون الألمان استطاعوا الوصول إلى رقم هاتف وبطاقة ائتمان استخدمهما فيرين. ومن خلال المتابعة تم التعرف إلى هويته الإسرائيلية الجديدة، باسم يوري برودسكي. وحين القبض عليه في مطار وارسو عثر المحققون معه على جواز سفر إسرائيلي مدون عليه هذا الإسم حيث اعتقل بناء لمذكرة جلب أوروبية صادرة عن الشرطة الفيديرالية الألمانية للشؤون الجنائية (BKA) بدعوى التجسس فوق الأراضي الألمانية.

موقف بولندي هزيل

ومن جهة أخرى تحرك الإسرائيليون بسرعة بعد نشر خبر اعتقال برودسكي على موقع ديرشبيغل. ونشط كل من وزير التجارة الإسرائيلي بنيامين بن إليعازر ووزير المواصلات إسرائيل كاتز، الصديق المقرب من نتنياهو، وركزا اتصالاتهما على التحذير من أزمة ستضرب العلاقات بين إسرائيل وكل من بولندا وألمانيا وعلى المطالبة بالإفراج عن برودسكي.

أما السفير الإسرائيلي لدى بولندا فبذل مجهوداً كبيراً لجعل المسؤولين البولنديين  يضغطون على السلطات القضائية للإفراج عن العميل المعتقل.

وقد نقل السفير في زياراته المتعددة إلى كل معارفه الرسميين في وارسو وجهة نظر حكومة بلاده حول المخاطر التي ستؤدي إليها عملية تقديم برودسكي إلى المحاكمة، والتحذير من احتمال حصول تدهور في العلاقات الثنائية، داعياً إلى منع تسليم برودسكي إلى ألمانيا.

ويبدو أن المسؤولين البولنديين الذي وجدوا أنفسهم محرجين بين مطرقة إسرائيل وسندان جارتهم العملاقة، ألمانيا، التي تربطهم بها اتفاقيتان لتسليم المطلوبين واحدة ثنائية وأخرى أوروبية والتي يحرصون على عدم إغضابها، قد أوكلوا إلى الإسرائيليين مهمة البحث عن صيغة تتيح حفظ ماء وجه كل الأطراف السياسية. وكان الهدف تقديم صيغة قانونية مقبولة علناً تضمن تحقيق رغبة إسرائيل في الإفراج عن برودسكي، الذي تبين من حجم الاتصالات التي أجريت بشأنه أنه بالفعل أحد العملاء الرئيسين للموساد في أوروبا.

وقد سارع رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك إلى إعلان عدم رغبة حكومته في ترك هذا الحادث يؤثر في العلاقات البولندية الإسرائيلية. ثم انهالت التصريحات الرسمية لتؤكد أن بولندا "مقتنعة" بوجهة النظر الإسرائيلية.

الفريق القانوني الإسرائيلي لم يلبث أن خرج بحجة قانونية نالت استحسان الجانبين البولندي والألماني، مفادها أن القانون البولندي لا يعاقب على التجسس على ألمانيا، وبالتالي لا يمكن أن يوافق القضاء البولندي على تسليم متهم بجريمة لا يعترف بها القانون البولندي أصلاً إلى بلد آخر، لأنه لا يمكن اعتباره متهماً في هذه الحالة، حتى ولو كان التسليم إلى ألمانيا نفسها.

وبناء عليه أصدرت المحكمة البولندية في 7 يوليو الماضي قراراً يوافق على تسليم برودسكي إلى ألمانيا ولكن على أساس أن يحاكم بتهمة المشاركة غير المباشرة في تزوير جواز سفر وليس بتهمة التجسس. وقد استأنف النائب العام في وارسو القرار، بهدف ذر الرماد في العيون، قرار المحكمة. إلا أن الحكم الذي صدر عن محكمة الاستئناف في الخامس من الشهر الجاري ثبّت قرار المحكمة الابتدائية القاضي بتسليم عميل الموساد على أساس محاكمته بتهمة المشاركة غير المباشرة في التزوير لا التجسس.

وبهذه الحيلة القانونية باتت ألمانيا مجبرة على تسلم المتهم وفق حكم المحكمة البولندية. وهذا كان معناه أن النائب العام الفيديرالي لألمانيا والذي يمثل حكومة البلاد لن تكون له أي علاقة بالمحاكمة، وسيترك الأمر في يد النائب العام لمنطقة كولون، الأمر الذي من شأنه تجنيب السلطات الألمانية أي إحراج سياسي أو إظهار أي تلاعب باستقلالية القضاء في ألمانيا والتهاون في تطبيق القوانين.

وكان واضحاً أن القضية كانت تسير في منحى نزولي يتلاءم مع رغبة إسرائيل بالإفراج عن عميلها. وفي حين أُبقي الجمهور بعيداً عن حقيقة الصفقة السرية التي أبرمت وراء الكواليس بين كل من تل أبيب ووارسو وبرلين، إلا أن الخبراء القانونيين أدركوا بسرعة أن عقوبة المشاركة غير المباشرة في التزوير لا تتجاوز مجرد غرامة مالية، يعتقد أن مبلغ الكفالة المالية الذي سدد لخروج برودسكي من الاحتجاز سيكفي لتغطيته.

أما الحديث الذي راج عن فترة سجن محتملة للعميل الإسرائيلي لفترة ثلاثة أشهر فيقول الخبراء القانونيون إنه لا أساس له من الصحة. وقد أتى خبر إطلاق سراح برودسكي يوم الجمعة لينهي عمل خلية الأزمة التي شكلها نتنياهو، في أول جولة من جولات المواجهة الدولية التي تنتظر إسرائيل في المستقبل في إطار التبعات القانونية المترتبة على قضية اغتيال محمود المبحوح.

وقد صدمت عملية الإخراج المسرحي لقرار الإفراج الرأي العام الألماني كما العربي، لا سيما في دولة الإمارات، التي كانت تنتظر لتعرف ما إذا كانت ألمانيا ستوافق على تسليم العميل الإسرائيلي إليها.

وقد أعلن القاضي أن بوسع برودسكي المغادرة إلى إسرائيل في حال رغب في ذلك بعد دفع كفالته، في حين أعلن الناطق باسم مكتب المدعي العام في منطقة كولون أن محاكمة برودسكي ستتواصل خطياً خلال وجوده في إسرائيل.

ولعل أكثر ما صدم المتابعين للقضية ما قاله الناطق نفسه من أن برودسكي "لم يُعلّق" على مسألة مشاركته في واقعة تزوير جواز السفر. وبدا وكأن المسؤولين الألمان قد استضافوا برودسكي ولم يحاكموه بسبب انتهاكه سيادة دولتهم وقوانينها.

موقف الإمارات

لكن ماذا عن موقف دولة الإمارات وإمارة دبي تحديداً التي وقعت جريمة اغتيال المبحوح على أراضيها؟

السلطات الإماراتية التي كانت تتابع قضية برودسكي منذ بدايتها وتتعامل مع الملف من زاوية قانونية ودبلوماسية كانت سريعة في إصدار بيان باسم وزارة الخارجية حمل من الغضب والإدانة ما لم تستطع أن تخفيه لغة البيان الذي صيغ بلغة دبلوماسية ملطفة.

وقد لفت البيان إلى أنه "طالما أن هذا الأمر قد يكون له علاقة بجريمة خطرة ارتكبت في دبي، فإن الإمارات تتوقع تعاوناً كاملاً وقوياً من السلطات الألمانية"، مشيراً إلى أن الإمارات "ستتابع هذه القضية من خلال القنوات الدبلوماسية".

وقد شعر المسؤولون في دبي وأبوظبي بالغضب من طريقة التعامل الألمانية والبولندية والتي لم تراعِ أدنى قدر من الجهد لحفظ ماء وجه كلا البلدين. ويقول أحد العاملين في الحقل السياسي إن السلطات الإماراتية سارعت منذ اللحظة الأولى لتبلغها نبأ القبض على يوري برودسكي إلى إصدار مذكرة توقيف دولية بحقه عبر الانتربول، لينضم بذلك إلى مجموعة الموساد المطلوبة في قضية المبحوح.

وتعاملت السلطات القضائية مع قضية برودسكي بحذر بسبب عدم وضوح الهوية الحقيقية للعميل الذي ينتمي إلى المجموعات التنفيذية والذي يبدو أنه يحمل رتبة كبيرة في هذا الجهاز الذي يضم 35 ألف عنصر.

وأظهرت المعلومات المتوافرة أن في إسرائيل ثلاثة أشخاص يحملون إسم يوري برودسكي ويقيمون في وسط إسرائيل، أحدهم يبلغ من العمر 23 سنة ويسكن في مدينة رحوفوت، وآخر يحمل لقب دكتور ويبلغ من العمر 38 عاماً ويسكن في مدينة كريات أونو في وسط إسرائيل. أما الثالث فيسكن في مدينة كفارسابا وهو يتواصل مع أهله في الولايات المتحدة حيث يقيم منذ ست سنوات.

وقد طلبت السلطات القضائية في دبي، على مدى الأسابيع الماضية، من الجانب الألماني وبشكل متكرر صوراً من جواز السفر وصورة المشتبه به لتحديد هويته الشخصية على الأقل في مذكرة التوقيف الدولية، ولتحديد ما إذا كان زار الإمارات من قبل، والتعرف إلى صوره بين صور الذين تم التحقيق معهم في عملية اغتيال المبحوح.

إلا أن الجانب الألماني تمنع بأعذار واهية باستمرار، ورفض تقديم أي معلومات تخص عميل الموساد. وبدا لوهلة أن الألمان يتجاهلون كل تاريخ التعاون القضائي بين ألمانيا والإمارات والذي أبدت فيه السلطات الإماراتية باستمرار كل تجاوب وتعاونت بشكل إيجابي مع طلبات السلطات القضائية الألمانية.

وقالت مصادر مطلعة إن الموقف الألماني أثار انطباعاً سيئاً تجاوز بحدوده دولة الإمارات، وأن عدداً كبيراً من المسؤولين في الأجهزة القضائية الأوروبية والعربية اتصلوا بعد إخلاء سبيل العميل الإسرائيلي ليعربوا عن خيبة أملهم واستيائهم من موقف السلطات الألمانية والبولندية.

ولا يعتقد أحد أن هذه المسألة قد أغلقت، وتنوي السلطات الإماراتية متابعة الموضوع مع الجانب الألماني للحصول على توضيحات ومعلومات مرضية، وإلا فإن المراقبين يحذرون من أن الأمر سيترك تبعات على العلاقات وعلى التعاون القضائي بين البلدين.
*ايلاف

Total time: 0.0578