الدخول المدرسي بالمغرب ومهنة الكُتبي
يوسف بورة
(رئيس الجمعية البيضاوية للكتبيين)
لا مراء في كون عدد من مظاهر أزمتنا الحضارية ناجم عن افتقاد المجتمع،أفرادا و جماعات و مؤسسات، لآليات و أدوات اكتساب و تداول المعرفة في تعريفها الأكثر شمولية، ابتداء من المدرسة و ليس انتهاء بلغة التواصل اليومي. هذا طبعا و نحن نعيش في عالم ما بعد الحداثة القائم أساسا على المعرفة و التعليم و مدى التمكن من المعلومة إنتاجا و تحليلا و استخداما.
و لقد علمتنا تجارب بعض المجتمعات التي بلغت شأوا بعيدا في التقدم الحضاري بأن رفع تلك التحديات ممكن شريطة الاهتمام الواعي بتكوين العنصر البشري و تزويده بأكثر الأسلحة فعالية في معركة التقدم و النمو. سلاح العلم.
إن ما قد يبدو للبعض نوعا من الطوباوية لهو في حقيقة الأمر الرؤية الواقعية الوحيدة التي بقدورها النفاذ إلى جوهر مشكلاتنا التنظيمية و الإنتاجية و الثقافية. لان حلول تلك المشكلات ليست وصفة طبية محدودة الأثر في الزمان و المكان بل إنها مجهود و سعي دائمان نحو البحث عن أحسن ما يختزنه كل فرد في المجتمع و تثمينه و إعداد التربة المواتية من اجل زرع بدوره و الاستفادة منه. و ذلك لن يتأتى ما لم يكن الفرد متعلما أولا و قارئا نبيها ثانيا. فالشرط الأول رغم أهميته لا يرقى إلى أهمية الشرط الثاني (شرط القراءة)، لأنه يتعلق بتكوين شخصيه الفرد و ذهنيته و حسه النقدي، و هي أشياء لن يتوفق فيها التعليم النطامي مهما كان مضمونه أو جودته.
وتبقى الأداة الرئيسية في نشر و تطوير القراءة مند خمسة آلاف سنة على الأقل هي الكتاب. صحيح أن للأدوات الأخرى مكانة و دورا تلعبه لكنها لا ترقى أبدا إلى دور ومكانة الكتاب الورقي. و إلا فكيف نفسر استمرار هذا الأخير في احتلال رفوف المكتبات العمومية و الخاصة، وخصوصا في المجتمعات المتقدمة التي تصنف نفسها كمجتمعات ما بعد صناعية.
ففي كل موسم ثقافي تصدر مئات العناوين بملايين النسخ و في شتى صنوف العلوم والآداب والتقنيات. لكن القراءة بدورها ليست نشاطا عفويا لا يخضع إلا لميولات الفرد و اختياراته ولكنها شبكة معقدة من العلاقات القائمة بين عدد من المؤسسات والقوانين والتنظيمات. ففعل القراءة يبتدئ من القارئ/المؤلف, مرورا بالناشر ثم القارئ/"المستهلك". وليست العلاقة بين هؤلاء علاقة اعتباطية, بل تحكمها قوانين و أعراف و أخلاق معينة. و لذلك فان أي مقاربة لإشكالية القراءة في المغرب لا بد و أن تستحضر هده المعطيات في شموليتها تجنبا لأي قصور في التحليل أو أحكام مسبقة أو جاهزة.
ولعل أحدى أهم الحلقات في سلسلة الممارسة القرائية هو الكتبي (تاجر الكتب المستعملة). فهدا الفاعل الثقافي يختزن من الأجوبة و الملاحظات حول إشكالية القراءة ما لن نجده لدى سواه.
ويرجع ذلك إلى ثلاثة أسباب على الأقل:
- الأصالة.
- التوافق مع العادات الاستهلاكية للمجتمع.
- القرب من القارئ.
1- الأصالة
من المعلوم أن مهنة الكتبي ضاربة بجذورها في عمق التاريخ و بأنها أول أشكال تداول الكتب في أوساط المتعلمين و الفقهاء و العلماء و أصحاب السلطة. ذلك ما تدلنا عليه العديد من المصادر و المآثر التي تجمع كلها على أنه حينما وجدت مدرسة أو جامعة إلا و تزدهر حولها مهنة الكتبيين. كما أن بعض المدن العتيقة ما زالت تحتفظ بأسواق منتظمة و قارة للكتب، مثل فاس و مراكش و تارودانت, حيث يجتمع في يوم معلوم من الأسبوع باعة الكتب و المخطوطات و تتم المتاجرة بينهم فيها ..إما بيعا و شراء بطريقة المزايدة (الدلالة) أو التبادل. على أن تلك الأسواق كان الرواج فيها مقتصرا على الكتب الفقهية و الأدبية واللغوية،و نادرا ما يعثر فيها على كتاب علمي في الرياضيات أو علم الفلك أو ما شابه.
و للتدليل على أصالة مهنة الكتبي في المجتمع المغربي تكفي الإشارة مثلا إلى التسمية التي يحملها أحد أهم جوامع البلاد (جامع الكتبية) بمراكش حيث بمستطاع المرء أن يحضر عملية (الدلالة) في الكتب كل يوم جمعة بعد الصلاة.
لكن هده المهنة ستعرف تطورات كثيرة مع حلول القرن العشرين و دخول المستعمرين الفرنسي و الاسباني و انتشار المطابع و مدارس التعليم الحديث. حيث بدأت تنتشر ظاهرة دمقرطة المعرفة و التعليم في المجتمع. و بذلك ستنتشر مهنة الكتبي في المدن الحديثة وستصبح لها أسواق مزدهرة في كل من الرباط و الدار البيضاء و طنجة و مكناس و فاس ومراكش... الخ.
كما ستبدأ مهنة الكتبي في التطور و الانفتاح على جميع متطلبات مرتادي المدارس والمعاهد و الجامعات ؛وسيظهر صنف من القراء المتعلمين الباحثين عن تكوين ثقافة عامة غير مرتبطة بالضرورة بمجال اشتغالهم أو تكوينهم. و يمكن القول إن فترة النصف الثاني من القرن الماضي كانت بمثابة العصر الذهبي بالنسبة للكتبيين. فالإقبال على معروضاتهم كان غزيرا في تلك الفترة المتميزة بحصول المغرب على استقلاله و رغبة جميع أبنائه في المساهمة في بنائه و الرقي به إلى مصاف الدول العصرية. و لم يكن دلك ممكنا إلا بتعميم التعليم و الاهتمام بالثقافة و تكوين العنصر البشري...
2- التوافق مع العادات الاستهلاكية للمجتمع
لعل احد الأجوبة الجاهزة في تحليل ظاهرة المغاربة عن القراءة هو القول بضعف القدرة الشرائية للمواطن. و رغم تبسيطية و جاهزية هذا الحكم فانه يستحق وقفة تأمل كونه جوابا يتفادى النظر إلى عمق و أصل المشكلة، بالإضافة إلى كونه يحمل في طياته موقفا ايديولوجيا و ديماغوجيا, واعيا في بعض الأجيال و بعيدا عن أي نوع من الوعي في أحايين كثيرة.
فالقول بضعف القدرة الشرائية للقارئ يتهافت بمجرد النظر إلى كثير من المظاهر الاستهلاكية التي اقل ما توصف به هو كونها نوعا من التبذير.
3- القرب من القارئ
إن الكتبي بحكم تواجده في أمكنة وفضاءات شعبية بعيدة مبدئيا عن عالم النشر والكتاب،كالأحياء المهمشة والشعبية، يوجد في قلب أي رهان سياسي أو مجتمعي لتجذير ممارسة القراءة و توسيع دائرة القراء. ناهيك عما يوفره من كتب قد يستحيل العثور عليها في أمكنة أخرى. هدا طبعا دون إغفال بعض الأبعاد الثقافية و الإنسانية التي تنسج في علاقة الكتبي مع زبنائه و التي تتيح نوعا من الحميمية و التلقائية بين القارئ و الكتبي مما يمكن من تبادل المعارف و المعلومات و يجعل عملية اقتناء الكتاب نوعا من المتعة.
لكن و رغم كل ما سبق ذكره فإن الكتبي يخوض معركة بقاء ضارية على ثلاث واجهات على الأقل: تجارية و تقنية و اجتماعية. فانكماش قاعدة القراء جعلت من مهنة الكتبي نشاطا موسميا لا يزدهر إلا في فترة وجيزة من السنة هي فترة الدخول المدرسي, حيث يلجأ إليه أصحاب الدخل المتدني و المحدود من أجل اقتناء المقررات المدرسية. أما في باقي فترات السنة فان مداخيل الكتبي تكون شبه منعدمة في أغلب الأحيان. أضف إلى ذلك أنه بدوره يعاني أمام اكتساح وسائط الاتصال الحديثة كالفضائيات التلفزية و الأنترنيت، و التي تأخذ من اهتمام و وقت الشباب الشيء الكثير .
أما اجتماعيا فان أول ما يصارع من أجله الكتبي فهو تصحيح النظرة الخاطئة التي يحملها عنه العديد من الناس كونه بائع خردة. فالكتاب لا يتحول أبدا إلى خردة ما دام قابلا للقراءة بل انه من الأشياء التي تزداد قيمتها بمرور الزمن.
لكن أخطر ما يواجهه الكتبي هو تجاهله التام من طرف الإدارة و المنتخبين و القائمين على الشأن الثقافي. و رغم المبادرات غير المعدودة التي يقوم بها الكتبيون بتنطيم الندوات والملتقيات الثقافية و المعارض فان أي مسؤول محلي أو مركزي لم يتكلف عناء الإنصات إلى مشاكلهم أو مقترحاتهم لمساعدتهم على النهوض بالمهنة و تطويرها. و تبقى مسؤولية وزارة الثقافة أساسية في هذا الإطار. فهده الأخيرة، و رغم تعاقب عدد من الوزراء و رغم العشرات من المراسلات المباشرة و غير المباشرة فانه لا حياة لمن تنادي...
إن الكتبي حلقة أساسية من سلسلة النتاج و التداول الثقافي و أن إهماله كما يحدث حاليا إنما ينم عن غياب أية إرادة لتثقيف و تفتح المجتمع. تلكم هي الخلاصة التي يستشفها كل من عايش حياة الكتبيين و معاناتهم اليومية و تراجع عددهم في مدننا سنة بعد أخرى...
فهل يلتفت إليهم مسؤولونا فقد يجدون في النهر ما لم يجدوه في البحر..