ميرال الطحاوي في بروكلين هايتس
بقلم: د. صلاح فضل
معجونة بالشجن المرهف, والشعرية اللاذعة, والوعي الشقي بأوجاع الغربة وقلق الإبداع وشغف السفر, تنسج الروائية النابهة ميرال الطحاوي خيوط روايتها الجديدة, المطرزة بألوان الذكريات والمشاهد.
وتطلق عليها اسم أحد أحياء مدينة نيويورك بروكلين هايتس وهي توزع فصولها علي طرقاتها وحدائقها ونواصيها, لا لتجعل البطولة السردية للمكان المنفي, بل لتفجر في قلب هند. قرينتها البعيدة. ينابيع الإلهام المتمثلة في ثلاثة مصادر أساسية, هي مشاهد الحياة اليومية في الغربة لامرأة تكتب الشعر وتصحب ابنها الصبي الذي يشغل حيزا كبيرا من كينونتها وأفقها, والذكريات الدفينة اللاهثة وراء الماضي الطفولي البعيد في قرية تل فرعون بأقصي أطراف الدلتا, أما المصدر الثالث الثري فهو خلاصة الحكايات المدهشة عن عوالم الجالية الأجنبية في بروكلين, خاصة العربية والإسلامية التي تقطن برج بابل الأمريكي الجديد. ويظل شغف الإبداع وحرقة تحقيق الذات وتقديم رؤيتها عن بعد هي العوامل الديناميكية التي تقود حياة هند مع حبيبها الفضولي في تلك الأصقاع التي لم تعد بعيدة الآن, حيث يمثل التقابل الحاد في اللون والمذاق بين صورة الذكريات القروية المصرية, والمشاهد الأمريكية المفعمة بالتناقضات, فضاء الرواية المثيرة للتأمل, في محاولتها للقبض علي روح اللحظة التي تعيشها المبدعة, فتصب لهب أشواقها للخلق, وتفاصيل علاقاتها بالأشخاص والأشياء في تيار الشعرية الحميمية, المفعمة بولع الكتابة, ومطاردة الذاكرة واعتصارها, لرسم لوحات وصفية شائقة, تتماس بقوة مع عدد من نماذج المهجر المرسومة بدقة توثيقية, تكشف عن جهد كبير لبث الحياة في عروقها النابضة.
قبو الذاكرة:
تصور الكاتبة. بدقة محترفة تشف عن خبرتها الجمالية. أرضية الواقع المهجري الذي تخطو فوقه روايتها, دون أن تلتزم دائما بمنظورها السردي, بل تنزلق منه أحيانا. علي الطريقة التقليدية. لتقص ما لايقع في دائرة عملها الممكن, لكنها ترسم ملامحها بوضوح قائلة: اسمي هند, جئت من القاهرة, لا أعرف بالضبط لماذا؟ أحاول تعلم الانجليزية, أحب اللغة العربية, أدرسها, أشعر أنها فقط لم تعد كافية. أشعر بخجل كلما كان علي أن أتكلم الانجليزية, حتي الكلمات الصحيحة التي تعلمتها عادة ما أنطقها بطريقة تجعل الآخرين لايفهمون ما أقول, أذهب دائما الي أماكن المثقفين, وأدعي أنني واحدة منهم, لا أفهم تماما مايتكلمون عنه, أجلس علي المقعد البعيد كي لا يسـألني أحد.. ولدي مشكلة مزمنة مع التواصل. نلاحظ أن تقطيع الجمل وتنظيم الأفكار والأسلوب يستهدف سهولة الترجمة ويعكس هذا الوعي الحاد بتقديم حالات تقف علي الحافة بين ثقافتين, وكأن الكاتبة تنظر في صياغتها ورؤيتها للقراء علي كلتا الضفتين العربية والأجنبية في الآن ذاته. وبدلا من أن تنشط ذاكرتها في اتجاه السنوات السابقة علي هجرتها الطوعية واغترابها الموجع, فإنها تؤثر أن تمتح من بئر الطفولة الأولي محلقة في سقف الذاكرة البعيد, تاركة الفضاء المجوف الذي يشغل عمرها كله مثل فجوة القبو الفارغة, باستثناء إشارات محدودة عن تجربة زوجية محبطة وأمومة تجعل ثديها ينز بالألم واللبن المتخثر.
تستحضر هند وهي تركض في البيت فرحانة, تبني من التراب وبقايا العلب والزجاجات الفارغة لعبتها المفضلة.
بيت بيوتة حيث ترسم علي التراب بيتا ومطابخ وأولادا, وتضع الدمي القطنية علي حجرها, وترضعها حليب صدرها.. تبني بيتا يسكن أحلامها ويمر الربيع علي نوافذه دائما, تنعي فيه دون أن يعبر رجل في الظلمة, ويصرخ في وجه امرأة في روب ملون بالطحينة والعسل والأزهار: أنا هغور في داهية من وشك حتي إذا عادت من تجوالها النفسي الي حياتها المتوترة وحجرتها الضيقة ورعبها الدائم من مفاجآت الأقدار في المهجر طفحت مشاعر الأمومة عليها بعنف, حيث تجلس طوال الليل خائفة أن يتوقف قلبها فجأة, تاركة هذا الولد الصغير علي فراشه, خشية أن يفرك عينيه في الصباح, ويهز جسدها فيجده متصلبا باردا. كتبت علي كل الحوائط أسماء أناس تعرفهم وأرقام هواتفهم, ثم وضعت جواز سفره علي الطاولة, حتي يمكن لأي شخص أن يرسل بطفلها الي أبيه ويترك جسدها لصاحب البيت والشرطة والمكتب الثقافي كي يلقوا به في أية مقبرة.
أجندة المهاجرين:
يمتد سقف الذكريات ليحيط بشطر كبير من حياة هند العائلية والمدرسية في قريتها حتي يبلغ أفول نجميها: الأب الذي كانت ترتبط به, والأم التي رأت قلقها الباكر وأحلامها الطازجة. لكن حشو الرواية تشغله أجندة المهاجرين من أعراق وأجناس عديدة, نماذج بشرية بالغة الحيوية والتجسيد, تلتقط الرواية زوايا أعمالهم وطموحاتهم بمهارة لا تتوفر إلا بالمعايشة الحميمية, ولعل نموذج زياد الذي يحلم بإنجاز فيلم عن حياة عرب بروكلين والمشكلات الأسرية التي تنهشهم, وكيف استعد ثقافيا له بقراءة إليوت و ويتمان وحفظ أشعار لوركا عن ضواحي هارلموجسر بروكلين حتي أصبح مشغولا بجمع المادة وتوثيق المشاهد, لعل هذا الفيلم الذي اشتركت هند بدور ثانوي في تمثيله أن يقدم لنا معادلا فنيا للرواية ذاتها, وكيف أنها لاتشبع طموح روايتها التي عاشت في أوهام صباها كل أدوار البطولة. وتماهت في مهجرها مع شخصية ليليت أو ليلي سعيد المصرية التي هاجرت مثلها في شبابها, وأفنت عمرها مع ابنها حتي فارقت الحياة, فجمعوا مخلفات بيتها ووضعوها في كراتين ألقيت في الشارع وعليها لافتة خذني إن أردت فأخذت هند تقلب لتعثر علي صفحات ورسوم من مذكراتها تشبه تلك التي ترويها, وكأن كلا منهما كان يبوح بذات نفس الآخر, ومهما تماثلت تجارب المهاجرين فإن ما يشغل عوالمهم المستلبة يظل بعيدا عن هموم الناس من حيوات وطموحات في أوطانهم الأصيلة التي تختزل لديهم الي مجرد ذكريات طفولية بعيدة. فتسبح الرواية في تأملات إنسانية وفلسفية مفعمة بالشعرية والأسي والحنين الجارف.