أخبار الساعة » فنون وثقافة » ابداعات ادبية

حوار مع الروائي المغربي أحمد المديني

- ادريس علوش

حوار مع الروائي المغربي أحمد المديني


ما نقرأه في السنوات الأخيرة يُوهم بطفرة روائية وهو تورّم

حاوره : يقظان التقي
الروائي والقاص والباحث المغربي أحمد المديني، له ما له من حيّز موفور، ومن تجارب عميقة، وتراكم، انتاجي متطور ومفتوح، وتطلع الى ما هو متجاوز باستمرار، وخارج "اليوتوبيات" الثابتة، و"البيانات" ـ الجاهزة، و"النظريات" الموجهة.. وداخل فضاء الحرية: النص يصنعه الحاضر ليضيء في المستقبل. انه الصيرورة التي تنفلت من كل أحكام أو تبنيات سابقة: دائماً نصه أمامه. ودائماً بحثه يطلع من عصب النص. فهو لا يبحث عن "أفكاره" أو منهجه في النص، وانما يبحث دلالات النص ومخزونه وأسراره.
[
أنت كتبت الأقصوصة والرواية والشعر، أين تجد نفسك في هذه الكتابات؟.
ـ هناك في كتاباتي مساران: مسار "ابداعي" وهذا يمتد الى الكتابة القصصية والروائية والشعرية والى تأملات أو النصوص المفتوحة والمسار الثاني هو المسار النقدي الأكاديمي ومصدره التكوين الجامعي الذي اتجهت اليه وكبرت فيه علمياً ومنهجياً ومهنياً وعندي أن المسارين يتكاملان ويتفاعلان بطريقة حيوية فالكاتب حاضر في لحظة النقد والدراسة والدارس حاضر بيقظة شديدة يتخلل النصوص الابداعية ويؤثر فيها وينير ويوجه ويؤثر على مسالكها. وكما تقول العرب فإن "لكل مقام مقالاً" فمقال الابداعي له مقتضياته والدرس والتحليل النقديان لهما مقوماتهما المعلومة.
إن الأخبار الأدبية التي يمكن أن يكتب فيها هذا المؤلف أو ذاك ليست أشياء أو بضائع موضوعة للاقتناء بل هي أوعية وقوالب تتناغم مع موضوعاتٍ وهواجس ومشاعر وبصفةٍ عامة مع رؤى تكون هي هذه الأجناس الأدبية مهيأة لاحتوائها وتمثل القالب التعبيري الأنسب. فأنا مثلاً حين أصطدم بمفارقة أو بنظرة مفارقة غير مألوفة عند منعطف في مرور يومي ازاء حادثة من طراز غير عادي في لحظة زمنية هي الحاضر بالذات فهذا قد يمثل عندي مادة لقصة قصيرة. لأن القصة القصيرة العابرة تلتقط العابر واللحظة والمفارق. والأمر يختلف فيها لو كنت أريد كتابة رواية وأنا لا أقرر كما ان الكاتب لا يقرر أنه سيكتب رواية بل إنه يحتاج الى أن يهيأ لها توثيقها وخبرتها ولكنه يكتبها لأن ثمة حكاية كبيرة ومصائر متشابكة ورؤية للعالم تتحرك وراء هذه المصائر والأحداث التي يريد أن يرويها للقارئ في زمنٍ وعن أمور تمت وأنتهت واكتملت فيأتي السرد ليرويها ويأتي السرد ليرفعها فوق سدة الواقع الى تخوم التخييل لكي تصل الى المرثية الضرورية لها، تلك التي ستسمو بفضل الانسان وتشمخ بوجدانه وتشف بمشاعره العميقة والمختلفة أي ان الرواية في هذه الحالة هي التعبير الذي يجمع بين الأنا والمجموع في لحظة، تقاطع الوعي بين الذاكرة والوجدان. ان مهمة كهذه تتطلب نفساً طويلة وآليات تقنية فنية دقيقة ومركبة ومهارات حقيقية فضلاً عن موهبة الروائي.
القصة والرواية
[
أي تميزات يمكن لحظها بين القصة والرواية من حيث البنية والمضمون واللغة؟.
ـ أمام الكاتب اختيارات والتزامات، أمام كل موضوع وشاغل ولكل فن إلتزاماته ومتطلباته من حيث البنية والمضمون واللغة والانجاز. ولا ينبغي أن نسقط في المفاضلة في الأنواع الأدبية. ولكن لا بأس من القول بأن هناك حالات أو تمايزات تقتضي التنويه. وأنا بحكم التجربة وبتقديري ان القصة القصيرة هي أكثر الأجناس الأدبية دقة وصعوبة ومحكاً لمقدرة الكاتب على السرد والوصف وتكثيف الرؤيا وبلاغة الأداء. ومنذ ما يزيد على ثلاثة عقود وأنا اتقلب بين القصة القصيرة والرواية قراءة وكتابة وبانتظام ويحدث لي حين أبتعد عن القصة القصيرة أن أعود اليها عودة من يريد اختيار أدواته الأولى والتدقيق في متطلبات الكتابة القصصية التي لا تسمح بها الرواية أو تبدو متساهلة فيها باعتبار مساحتها النصية وما قد تنتجه من امتدادات. غير أنها مصيدة أخرى للرواية تضعها في طريق كثيرٍ ممن سيستسهلون هذا الفن.
[
يقال ان كثيراً من الروايات العربية أو الغربية الراهنة أقرب الى القصة الممططة أو المطوّلة منها الى الرواية الى أي مدى يمكن اعتبار هذا الرأي صحيحاً؟.
ـ صحيح مطلقاً. وباستثناء نصوص نادرة فذة في الأدب الغربي والعربي على السواء، فإن ما تطرحه دور النشر هو سلسلة من المرويات الذاتية بل "الذواتية"، أي المستغرقة في ذوات أصحابها المغلقة والتي لا تكون فيها الذات أو حكايتها بؤرة لانفتاح ولابراز التعبير عن رؤى وهواجس أكبر منها.
ان جميع الناس يمتلكون حكايات عن أنفسهم، طفولتهم، يفاعتهم، شبابهم وكهولتهم وسلالتهم، وأشياء كثيرة عاشوها أو عاشها آباؤهم أو رويت لهم في محيطهم. كل هذه ليست الا المادة الخام التي تحتاج ان تمتد اليها يد الفنان الصنّاع فتغربلها وتُزيل عنها شوائب المبتذل والعادي والمسف وتلتقط منها جواهر المحكي الذاتي، المجتمعي والانساني أي الأدبي الحقيقي. أما ما بتنا نقرأه في السنوات الأخيرة وخصوصاً في الفترة الأخيرة بما يوهم بوجود طفرة روائية فهو "تورم" أكثر منه ابداع وتضخيم محكيات مجانية، أي مفتقرة الى ابداعيات الرواية أكثر منها روائيات جديدة بالانتباه.
وهذا سواء فيما يكتبه الرجال أو ما تكتبه النساء ما بات يشبه "اسهالاً لفظياً بلا حدود".
إن للأدب حدوداً، أي للرواية كما لجميع الأجناس الأدبية نظاما. ان التجريب والتجديد والحداثة وكل ما يخترق آفاق الحداثات لم تكن في يوم من الأيام لا ففراً في اللغة ولا اذقاعاً في الأسلوب ولا شحوباً في الخيال ولا جهلاً بقواعد اللغة. هل يعقل أن تفوز رواية بجائزة كبيرة جداً في العربية وهي مشحونة بالأخطاء اللغوية والنحوية على غرار رواية عزمي بشارة، هل يعقل أن يدعي كاتب جديد الرواية وهو يجهل أصول الرواية التقليدية ولم يجربها ولم يمهر فيها. ان التجديد والحداثة مغامرة جدية، ضرورية وحتمية لأن الكاتب ابن غده ومستقبله.
والنضال في الأدب ليس عبادة التقليد ولا الكلاسيكية لأن الكلاسيكية بالنهاية هي مآل كل الآداب بل ان أي نص عظيم وحقيقي يطمح أن يصبح كلاسيكياً بمعنى أن ينضوي في تاريخ الأدب. هكذا بودلير، رامبو، لوتريامون، المتنبي والسيّاب. اما في الرواية فالاعلام الكلاسيكيون معروفون وآخرون سيأتون وهؤلاء المجدّدون القادمون والضروريون هم الأمل دائماً لإنقاذ الأدب من الاسفاف والابتذال والاستهلاك لأن الأدب حقيقة ودائماً وخلافاً لما تتصور نادرٌ.
تغريبية
[
هناك ظاهرة "تغريبية" للرواية العربية (والغربية) تمثل في خروج الرأي عن واقعه وتناقضاته والاعتمادات السابقة، كأنها هي هروب، اما الى الأكزوسيم ارضاء للذائقة، الغربية أم الى التاريخ، أم الى الفولكلورية.. ما رأيك؟
ـ صرت لا أحب التحدث عن الآداب المحلية اذا سئلت عن روائي مغربي، ما معنى أن أكون روائياً مغربياً، بحكم مولدي، جنسيتي الادارية، وبحكم أوراقي الثبوتية أو بحكم يفترض أن هناك تياراً أو تيارات خصوصية في الرواية المغربية وأنا أنتمي اليها ونصي احدى تمثيلاتها، أم انها تسميةٌ فضفاضة هكذا.
نعم ان كل أدب وكتابة وكاتب ينطلق من بديهيات بيئية، وطبيعية واجتماعية مختلف بين بلد وآخر الخ.. هذه مسلمات. ولكن شواغل اللغة العربية فهي مشتركة عن طموحنا باعتبارنا مواطنين، لو اعترف لنا بأننا حقاً مواطنون. يلتقي جلها في الحاجة والحرمان والقهر والاضطهاد والطموح الى أنوع الحرية والكرامة الانسانية.
ونحتاج كلنا ككتاب عرب الى أن نجد ما يساعدنا على نقل تجاربنا أدبياً وهذا على مستوى توفر حركة التعبير وإمكاناتها وذاتياً بأن نكون نحن أيضاً مؤهلين كأفراد وكتّاب لنقل هذه التجارب بمستوى ابداعي متجدد ومتطور يتواصل مع الحياة ويعبّر عن قيمها الكبرى ويمس ما يستطيع أن يمسه من القراء والجمهور بصفة عامة.
ومن الناحية الثانية الكاتب يفترض أن يعيش في قلب زمانه. لم نكن في حاجة أن يقال لنا أنت اليوم في عصر العولمة، ولا أعتقد أن هناك أدباً محلياً وقطرياً. الأدب العظيم هو الذي ينتقل من محلية الى آفاق أوسع وإلا لماذا نقرأ أدباء أميركا اللاتينية وروائيين يابانيين ويوجد قراء في السويد يقرأون شعراً عربياً لأن الانسان كائن مركب" واشكالي وهمومه يمكن متقاربة ويبقى كيف نخاطب هذه الهموم بحيث تخرج من محليتها المغلقة وخصوصيتها الى الأفق الانساني الأوسع وهذه ليست مسألة وعائية كأن نطلق على أدب انه أدب عالمي، بل لأنه يمتلك طاقته العالمية. أما العولمة فمسألة أخرى. لذلك الكاتب وأياً كانت جنسيته مجبر على التأثر مدفوع الى التفاعل، يحتاج الى التواصل مع جميع اللغات والثقافات ويبقى له حسب مؤهلاته وموهبته ان يعطينا المنتوج الصافي الذي يخطه. أنا كاتب مغربي ولا. لبناني ولا، فرنسي ولا، انكليزي ولا، أنا أريد ان أكون الكاتب فوق الجنسيات وخارج جلد الثقافات، مستسقياً من الثقافات واللغات وفوقها وخارجها.
زمن الرواية
[
يحكى من زمن الرواية اليوم، وعن "لا زمن الشعر"، الى متى يعود هذا الرأي، أ إلى رواج الروائية و "البست سيلرز"، أم الى تراجع الشعر، علماً بأن الشعر كان دائماً أقل مبيعاً من الرواية منذ القرن التاسع عشر الى اليوم؟.
ـ الحقيقة ان الحديث عن الشعر ليس سهلاً، وهو دائماً محفوف بالغموض والخصوصية. الشعر هو أندر الكتابات الأدبية لأنه هو جوهرتها الثمينة وعند كل الشعوب ومن مختلف الثقافات وعبر مختلف العصور وجد دائماً تنافسٌ لخلق أجمل النصوص وأقدرها في التعبير عن أشجان الانسان وأحلامه بلغةٍ متفردة، هذا المطلب التعبيري تقلّب في ظروف ثقافية واجتماعية وأدبية تخص كل بيئة على حدة وظهرت في تاريخ كل أمة تقاليد، لو اكتفينا بتراثنا الشعري فإننا واجدون تاريخاً طويلاً يمتد على الأقل من المعلقات ومروراً بالعصر الاسلامي وبقصائد جرير والفرزدق وعذوبة البحتري وعبقرية المتنبي والاشعارات القصوى لأبي تمام والتحرر الجميل والمجدد لأبي نواس انتقالاً الى مرحلة ما سمي بالنهضة التي حاولت استعادة تقاليد الأهلية البنائية للشعر العمودي العربي منطلقة منها ومتفاعلة مع بدايات التأثر بالشعر الأجنبي سواء في مدرسة "الديوان" ومدرسة "المهجر" التي هي لبنانية صرف بالمناسبة، ثم النقلة الكبرى التي مثلت تحولاً وقطيعة أولى مع الشعر العمودي وعن مدرسة التفعيلة بمختلف مدارجها ونماذجها وأعلامها و امتداداً ووصولاً الى القطيعة الكبرى في الشعر العربي المتمثلة والتي ابتدأت منذ نهاية الخمسينيات وفي لبنان بالذات، الذي هو احدى المنارات العالمية والوضاءة للابداع العربي. أقول القطيعة الكبرى المشتملة ما اصطلح على تسميته بقصيدة النثر.
الآن لا نستطيع أن نتحدث عن قصيدة النثر بإطلاق، فالذين أسسوا هذه القصيدة، نقلوا نموذج هذه القصيدة الى العربية وراحوا يكتبون بها وتدريجياً صارت تكتب بتوازٍ حذرٍ ومحتشم ومتروٍّ الى جانب قصيدة التفعيلة مثل انسي الحاج، أو يوسف الخال، ثم أدونيس لاحقاً وجاء بعدهم جيل آخر يبدو لي أنه أكثر وعياً معهم بمفهوم قصيدة النثر وملائمتها في التقيد بطريقة خصوصية وأصبحوا بعد الجيل الاول فعلاً تيارا متميزاً بنصوصه وأخص بالذكر وأنا مقتنع به بحكم المواكبة للشاعر بول شاوول لانتظامه هذا المسار ولأنه ذهب الى النصوص الأصلية من الثقافة الفرنسية ولأنه متمثل بالثقافة الابداعية العربية في بيئة (لبنان) يتميز بكونها مزدوجة الثقافة واللغات وملتقى الثقافات والحضارات والصراعات وهناك شعراء آخرون كعباس بيضون ودعني لا أذكر أسماء أخرى كي لا أنسى. والحقيقة هناك انطولوجيا كاملة من الشعراء غنية بالأسماء من شعراء في لبنان، من سوريا، في المغرب عندنا ثورة طافحة من الأسماء ولكن أعود فأقول ان الحديث عن الشعر بالعربية محفوف بالغموض، لأن الشعراء الجادين أي مسؤولين أدبياً القادرين جاء بعدهم رهطٌ من الناس باتوا يعتقدون ان رصف الكلمات أو العبارات كيفما اتفق هو شعر كما أن غيرهم ممن باتوا يظنون ان جميع المرويات واصطفاف الأخبار وتلفيقها وجميع المكبوتات و"تفجيرها" ورسم عريّ الأجساد والتشوهات واستعراضها هو رواية، فقد فسد الكلام وتلفت المعايير، زاد في ذلك أننا بتنا نفتقد الى مناخٍ أدبي يلعب فيه النقد الأدبي كما في الماضي دوره.
ولا يستطيع الاعلام الثقافي كيفما خلصت نيته ان يستوعب هذا المشهد أو ينقّي شوائبه، زد على ذلك وهو أفدح مساهمة دور النشر العربية في افساد الكلام. هذه الدُور التي كان الكثير منها بمثابة منابر ثقافية وهي تعتمر في البيئات الثقافية المقتدرة منابر تحولت من دور نشر الى وكالات بيع للورق بمعنى أنها تتلقى مبالغ من الكتّاب مقابل طباعة كتبهم وهذه الآن ظاهرة مؤسفة وغالبة.
إن من حق من يشاء أن ينشر كلامه بماله، لكن كم من المواهب والكتابات تتعرض للحجب والتبخيس بسبب هذا الوضع الهجين.
الخضوع
[
كيف ترى الى خضوع العديد من الروائيين العرب اليوم الى منطق السوق الغربية، عبر ارضاء هذه السوق، وجمهورها، طمعاً بالترجمة أم ما يسمى "العالمية"؟.
ـ أولاً ان الحديث عن فرض الرواية بشكلٍ نقدي مؤسس ومسؤول جاء على لسان مارت روبير، وهذا كان سنة 1972 في أعمالها الرائدة حين شرعت تضع القواعد النظرية للتجارب الكبرى من الرواية الغربية لدى فلوبير وسرفانتس وكافكا، أي ان هذا الكلام يعود الى 4 عقود وليس الى سنوات أو أشهر قليلة. الحديث عن فارق الرواية يعتبر حديثاً من الماضي لأن الأدب الحديث بالمعنى الصناعي والسلعي والاجتماعي الذي نقل فورة التفسيرات الكبرى الثورة الصناعية والرأسمالية ولكل ما حدث في الحربين العالميتين جاء على لسان الرواية. نعم أن الشعر كان حاضراً، ولكن بشكل موازٍ كأنفاس مستقطعة وليس كتعبير جماهيري منذ قال لوكاش بأن الرواية بمثابة التعبير النثري المبتذل ليس بالمعنى القدحي، أي نقيض الملحمة بتصنيف والخصائص الواردة في بوتقة أرسطو. منذ هذا القول الذي أصبح منظماً في كتابة "نظرية الرواية" وهذا يعود الى الخمسينيات فإننا كنا نعيش زمن تتويج الرواية كأقوى حس أدبي غالبٍ ومستوعب بشكل أوسع للذات الانسانية والهموم الاجتماعية وتناقضات الحياة بصفة عامة. أما إمكان القول بغلبة وانتشار الرواية وزمنيتها في العالم العربي فإن العقد الأخير بصفة خاصة شهد وملأ كثرة من الاصدارات في كل قطرٍ عربي على حدة قياساً بما كان يصدر في الماضي وقياساً بالتعبير الشعري. ولكن أتساءل هل الكثرة مقياس للحديث عن زمن وجود زمن للرواية أم هو نوعية ومضمون ما يصدر. وثانياً هل نحتكم الى العالم العربي لكل أمر نحتكم الى بيئة واحدة. وهذا هو الغالب عند اخواننا المصريين الذين ينظرون دائماً الى الأوضاع الثقافية والأدبية ويقومونها من بوصلة بيئتهم الخاصة. أظن أن زمن الرواية العربية آتٍ. لقد حدث تأسيس على يد الرواد وأنخبهم نجيب محفوظ، وتلاه جيل مؤهل ومرسخ أدوار "الخراط"، وصنع الله ابراهيم وأمين معلوف كأهم عربي يكتب الرواية بالفرنسية هو والطاهر جلول وغيرهم حيث الرواية هي الجنس الذي اضطلع النقاد على تعريفه القادر على نقل التحول الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع من بيته لكونية اقطاعية رعوية استبدادية الى المجتمع تبرز فيه الطبيعة الوسط كفئة منتجة وطموحة ويعيش أفرادها تطلعات من نوع جديد وبالتالي فإن أزماتهم الذاتية والفئوية والقطاعية وهي ذات مناح سيكولوجية/اجتماعية/اقتصادية متعددة تصبح مادة للرواية. هذه الهموم كلها كتبها وسجلها روائيو العرب في حواري التأسيس والتأصيل ونحن نعيش الآن مرحلة جديدة بعد انهيار القومية ومطامح التحرر (العالم الثالث) وانحسار التيارات التقدمية العربية المطالبة بالديموقراطية ومثلها.
نعيش مرحلة من الجمود والتراخي والغموض وما يشبه انسداد الآفاق وشبه اليأس من المستقبل. هذه الحالة التي تعيشها كتاب جماهير عديدة والعالم العربي والاسلامي وكل بلدان الجنوب تحتاج الى أن تنضج من جمودها وخيباتها وأن تنضج كذلك شروط "تعفنها" وبعد ذلك سنجد أننا سننتج جيلاً آخر أكثر قدرة على كتابة الرواية بوضعها التعبيري الأدبي الطبيعي والأمثل والأنسب لبلدانها بمعنى أن زمن الرواية سيكون أكثر غزارة وملائمة واتقاناً غداً.
خريطة
[
هل الرواية العربية اليوم بخريطة أم بلا خريطة؟، وأين هو موقع الرواية المغربية من حساب الرواية العربية، وهل تظن ان من "يترجمون" الى الأجنبية لا سيما الفرنسية يمثلون حقاً النوعية الفضلى أم أن للعلاقات الشتى شأنها وتأثيرها؟.
ـ فعلاً هي ظاهرة لدى بعض الكتّاب العرب يقدمون تنازلات لنوعٍ من الابتزاز، ولكنهم يخطئون لأن الجهة الغربية لا تعاملهم كأدباء ولكن كمنتجين ومصورين لبيئات فولكلورية وغرائبية (اكزوتيك) هي بحاجة اليها، كأنها تكتشف الانسان الأول أو بعض المظاهر الطريفة وغير المألوفة لديها. أما الأدب فهي معنية بأدبهم أو بأن خاصية جمالية فيه. وعند المؤسسات الغربية هناك مراتب: الأدب لنا والغرائبية والفولكلورية لكم. وهذا مقياس أساس يتحكم في التسويق للترجمة الى جانب العلاقات والصفقات الخاصة.
ـ كلمة خريطة تعني رسماً دقيقاً ومواقع وخطوطاً محددة ومسارات ومساحات وهذه مسألة نقدية مهمة وهذه كانت موجودة. هذه الخريطة، ونرى الآن انها تشحب وهناك خريطة بمواقع صغيرة ومساحات قليلة تحاول أن ترتسم ولكن ما زال أمامها طريق طويل لكي تبرز للعيان وتصبح فعلاً دليل سبر روائي للنقاد والشعراء على السواء".
أما بالنسبة للرواية المغربية فإن وضعها شبيه بالرواية العربية ككل وان كانت بحكم فتوتها ومحدودية تراكمها يجدّ في ترسيخ تعابيرها وتأصيل التقنيات الفنية الى جانب نصوصٍ رائدة فيها غامرت مبكراً في التجريب والتجديد، وأستطيع أن أقول عموماً بأن الرواية في المغرب الآن لم تعد تعاني كما في السابق من عقدة مشرق مغرب بل هي انتاج ثقافي عموماً في هذه المنطقة ينزع للاندراج في السباق الثقافي العربي كله والغربي أيضاً بمجمله.
وبين عبدالله العروي ومبارك ربيع ويوسف فاضل والزاوي وتازي وجيلٌ هو الآن بصدد التكوين والحضور. وهو جيل واعد بكل تأكيد.
[
أنت باحث وناقد هل تتجاوز "هويتك النقدية والفكرية" الخاصة والنظرية (والايديولوجية) في تناول الرواية أو الشعر كعناصر جاهزة؟.
ـ منذ بداية هذا الحوار وأنا أحاول أن أتحدث خارج مداري الشخصي جداً، وهذا يحرجني والا ينبغي أن أتحدث عن تجربتي الشخصية وقد يجذبني هذا الى منطقة التفريط الذاتي أو الى نوعٍ من التواضع الزائف وهما معاً ممزوجان لكن لا بأس أن أستعير رأي آخرين. فلقد اعتبرت كتابتي التي انطلقت من مطلع السبعينيات بأي مجموعة قصصية "العنف في الدفاع" (1971) ثم الروايات على امتداد السبعينيات، ومنها روايتان أساسيتان "الجنازة" (1980) و"حكاية وهم" (1982) عن دار الأدب.
هذه النصوص الثلاثة شكلت المتن الذي سيعتمد عليه نقادٌ في المغرب وخارج المغرب وستصبح مصدر رسائل جامعية لاستقراء النص السردي المجدد في المغرب والى جانبه نصوص سردية مجددّة وتجريبية في العالم العربي تميزت بما تراه هي من فرادة تعبيراً عن تطور حقيقي في الواقعية الروائية العربية وتتميز عند هؤلاء الدارسين أو النقاد بامتصاصها لارهافات وخصائص السرديات الغربية وانطلاقاً من هذا المتن الذي كتبه في السبعينيات والثمانينيات واصلت تجربتي لا يتوقف فيها ايقاع التجديد الذي هو بمثابة اعادة كتابة مستمرة تنطلق في الرواية والقصة القصيرة من التشخيص والوصف والتمثيل لبناء طبيعة عليا فوقها يرتع منها الخيال وتتعدد في الأنسجة اللغوية والأسلوبية وتتداخل فيها العيون والصور وبتنوع الأحداث.
[
يقال ان مشكلة النقد العربي تكمن في ان هناك تفاوتاً شاسعاً بين ثقافة الناقد والباحث النظري، وبين ثقافته "النصية"، فيكون الباحث "شبه جاهل" في الاطلاع على النصوص و"متفوقاً" في ثقافة المدارس والاتجاهات النقدية؟.
ـ هذا حكم افتراضي أكثر ومتفاوت ولا يمكن أن تتخذه قاعدة عامة، فالكتّاب متفاوتون في ثقافاتهم ومصادرها وكذلك النقاد والدارسون. فهناك نقاد يعلو عندهم المنسوب النظري ونضج هذا الأسلوب، ويقل عندهم المنسوب الابداعي والعكس صحيح. أنا ممن يؤمنون بأهمية الثقافة بالنسبة للكاتب فلا أحد يكتب بدون ثقافة ومن دون مرجعيات سابقة والتعرف على تجارب محيطة وسابقية وإلا فهو مكابر أو جاهل. والخبرة ضرورية جداً للكاتب. من ناحية أخرى ان عملية الكتابة الابداعية هي أيضاً عملية نقدية لأنها تقدم المهارات والطرائف الفنية بإجادة أو باقتراح وحين يعلن الناقد نصاً أو يؤهله فهو يؤهل ذائقة ومرثية من التعبير جمالية. من ناحية ثالثة ان هنالك مرتبة مثالية حين يتوفر الكاتب على الحسّين الموهبة والثقافة المناسبة. فإن هذه تبقى بعين هذه لتلك وفي كل لحظة يكتب الكاتب قصة أو رواية أو قصيدته فإن ثقافته النقدية ودريته الفنية تقودانه بالشكل الذي يطمح اليه ويأمل في الارتقاء به الى التعبير الأمثل

 

 

.

عن صحيفة المستقبل اللبنانية

المصدر : بريد بريس-ادريس علوش

Total time: 0.0439