لو انباني العرّاف
أنك يوماً ستكونُ حبيبي
لم أكتُبْ غزلاً في رجلٍ
خرساء أًصلّي
لتظلَّ حبيبي
لو أنبأني العراف
أني سألامس وجه القمرٍ العالي
لم ألعب بحصى الغدران
ولم أنظم من خرز آمالي
لو أنبأني العراف
أن حبيبي
سيكونُ أميراً فوق حصانٍ من ياقوت
شدَّتني الدنيا بجدائلها الشقرِ
لم أحلُمْ أني سأموت
لو أنبأني العرّاف
أن حبيبي في الليلِ الثلجيِّ
سيأتيني بيديهِ الشمسْ
لم تجمد رئتايَ
ولم تكبُرْ في عينيَّ هموم الأمس
لو أنبأني العراف
إني سألاقيك بهذا التيه
لم أبكِ لشيءٍ في الدينا
وجمعتُ دموعي
كلُّ الدمعٍ
ليوم قد تهجرني فيه
الشعراء قلقون منذ قديم الزمان ! فهم يسألون ويكررون السؤال ! جلجامش الملك والشاعر كان يسأل ! هل نحن الى فناء وهل الفناء للروح ام للجسد ؟ وهل هناك فرصة ولو ضئيلة للخلود ؟ ت . س .اليوت منح بطلة الارض اليباب امنيتها في الخلود لكنه عاد اليها بعد الف سنة وقال لها ماذا تتمنين فاجابته على الفور : اتمنى الموت ولاشيء سوى الموت ! الشاعرة لميعة عباس عمارة الشابة الغضة الجذابةالجميلة التي الهمت كبار الشعراء أجمل قصائدهم ! هي ذي تقلق على كينونتها ولاتجد احدا من الخلق تستنجد به سوى العراف وهي تدري ان العراف قد لايجيبها عن سؤالها فتستعمل معه اداة تبرر لها حالة الحيرة ! الأداة هي ( لو ) بكل ارتباكاتها ومحمولاتها ! ومن قبل سأل الشاعر القديم عروة بن حزام ت 30 هــ عراف اليمامة ان يشفيه من سقم الحب :
فقلت لعراف اليمامة داوني فإنك ان ابرأتني لطبيب
والعراف في اللغة الطبيب والمتنبيء والفلكي والساحر والمنجم ! فهل استدعت عمارة أحد هؤلاء ؟ ام شكلت منهم ضمير الغائب في ( أنبأني ) !
الشاعر عراف كما تقول ملحمة جلجامش لانه قادر على رؤية كل شيء ! فما الذي حدا بالعراف في لميعة لكي يسال العراف في القصيدة ؟ ان الشاعرة لميعة خارج الشعر وداخله ! خارج الوطن وداخله صورة لنخلة عراقية تعطي ولا تكف عن العطاء لأنها سليلة الفراتين دجلة والفرات وشبيهتهما في التدفق غير المحدود ! . و قصائدها مثل ينبوع ازلي يسقي الغريب والقريب ! ومن ينهل من عذب شعرها يجد خياله سابحا في كل الاتجاهات والمدارات! شعرها المعقول لامعقول وشعرها اللامعقول معقول وهذه الحالة تمتاز بها لميعة ضمن معادلة ذكية طرفاها الشكل والمضمون ! ولماذا اذهب بعيدا وامامي قصيدة لو انبأني العراف !! هذا العنوان الأسطوري الذي يحيلنا من الوهلة الاولى الى اجواء القصيدة ! المتحشدة باللوحات الفنية المبطنة بالرموز الاسطورية ! كأنها تستعمل الصور الفنية كتعاويذ لفك مغالق الفضاء المكاني والزماني : يتمحور هذا الخطاب الشعري للشاعرة في قصيدتها لو أنباني العراف الهروب من الواقع المهمين على مساحة الشعور واللاشعور ! وهذه الاشكالية في حياة الشاعرة لميعة عباس والامتزاج الكلي بين خيال العراف ومخلية الشاعرةومسارها النفسي والتشبث بالامل المعلق هذه الاشكالية لم تجد حلا في دنيا القصيدة !
ان الشاعرة تشرب من معين عميق لاينضب فهناك لوحات صورية اسطورية معلقة بين الواقع المتازم الكالح وبين انتظار جواب العراف المطمئن كما ينبغي ! فهل حقا ان العراف سوف يجيب عن سؤالها ؟ وهل سيحلق الطائر الذي يحمل الحلم الاخضر الذي استحضرته في ذاكرتها المتعبة؟ لعل هذا الطيف في الوعي واللاوعي يصلها الى الحلم المنشود .واقترانها بالمجهول وما يخبئه لها من مخاوف واحلام ورعب واسئلة متكررة لم اكتب (لم) تلغي الزمنين الماضي والحاضر لم ( اكتب ) غزلا في رجل ! ولكنها قد تكتب ! هربا او خلاصا من ديمومتها وكسرا لقوقعة المالوف الممل ! قوقعة الغربة في الماضي والحاضرللاقتراب من الغد ! بكل شحناته واحتمالاته لكن الشاعرة سرعان ماتلغي قطيعتها مع الحاضرلانه الممكن الوحيد بين يديها والمتبقي الوحيد من امسها ! الشاعرة خرساء تصلي ! هذه الجملة الشعرية الايمانية وهذا الحوار monologue) )الذاتي النوراني العرفاني المتميز مع الله والتوسل اليه للتخلص من كوابيس التفكير المعتم يشي بحالات اليأس والمعاناة والتشبث بسلاسل البقاء الابدي الذي يخيم على اجواء القصيدة وقد اجتاحتها احلام اليقظة المحبطة التي وضعتها داخل زنزانة من تكسر الذات والمعاناة والتلوع من الوحشة والانتظار الطويلين لتنعم برفقة من تحب في متخيلها الواسع لتنسجم مع (تظل حبيبي ) !هذا الخطاب الموجه الى الحبيب الخارق بوصفه الملاذ الآمن والزمان الجميل هذا الخطاب حالة تمثل الاقتراب من الخلاص وممارسة طقوس العرافة ! هناك الرائع من الزمان او المكان او الحدث تنتظره الشاعرة وتبني الاحلام على انتظارها واحتمالات قدومه سواء في ذلك أجابها العراف ام لم يجبها فهي اقدر منه على صناعة النبوءة وادرى منه في قراءة المجهول .
وترصد الشاعرة حالاتها الشعرية والشعورية من خلال اللوحات الفنية والصورالبيانية الاستعارية فمثلا المشبه به ليس تقليديا فهو جديد حقا ! جملة كاملة هي المشبه به الحاضر (لو أنباني العراف ) وجملة كاملة وربما جمل كثيرة هي المشبه ! والشاعرة هنا غير معنية اطلاقا بشرح وجه الشبه داخل العملية الاستعارية ! هذه الصور ( الفوبيا ) مكتنزة بالهواجس واحيانا الوساوس من اجل البقاء والاستمرار وذلك آخر حلم للانسان الساطع حين تتعب خطاه ! .ويؤيد تحليلي هذا تلون اللوحات داخل قصيدة لو انباني العراف والتلون يمضي الى الحالات والظنون والمجازات والدلالات وينسحب بانسابية على شكل القصيدة ومضامينها وإلا كيف تهيا للشاعرة الحلم بملامسة وجه القمر لو لم تكن في لاوعيها قادرة على هذا الحلم ؟ المشهد الصوري لم يكن عبثيا اطلاقا ! ولا يحمل محمولات الخيبة اطلاقا ! الشاعرة او القصيدة – هنا – سيان قادرة على ان تسدل الستائر على الصور الفنية الرمادية رغبة لا رهبة ! تتملكها رغبة عنيفة في ملامسة القمر وهي معادل واضح جدا لملامسة الحبيب او ملامسة الزمن الحبيب ! وامتزاج الصورتين المجازيتين بالصورتين الواقعيتين يشي باجواء رومانسية تلطف مناخ القصيدة التي اتسمت بالمفارقات المدهشة مثل القمر العالي وللعب بحصى الغدران والعودة الى الصبا والطفولة واللهو واللعب بمعنى أدق تحاول القصيدة إبعادنا كليا عن واقع مزر ومشاغل مربكة وتفاصل لاتنتهي ! أذن كي تمارس الشاعرة ملامسة حلمها الازلي تمد يديها الناعمتين كي تلمس القمر فلا مسافة بين حلم لميعة وتحقق الحلم!الشاعرة الرائدة باحثة في كل قصائدها وعن السمو فهي محلقة في سماء ارضية مقترنة
بالماء والحصى والطبيعة والشباب اللهو واللعب وعدم التنظيم من خرز ألأماني ! وقد كانت سماء الشاعرة نجوما من الطقوس والافعال بما يمهد للجانب الرمزي كي يدخل عالم الوضوح ويمهد لاحلام اليقظة كي تدخل عالم التحقق! . وعند النظر الى توظيف القصيدة لمفردات اسطورية جمعتها من هنا وهناك فاننا سنكون ازاء شاعرة كبيرة تحترف صناعة الجمال من واقع غير جميل ! وتوظف الاسطورة في صياغات مختلفة عن معادنها الاولى ! فمثلا ترصد الشاعرة لميعة عباس عمارة تمازج الأسطوري بالخرافي بحيث تفصل منهما عملا جديدا ! عملا مشبعا بعالم الاسطورة والخرافة معا مما يسهم في تركيب بنية الحكايات الشعبية المتداولة دون ضرورة لوجود الفارس المنقذ الذي يمتطي حصانه الذهبي ليختطف في ليلة مقمرة فتاة أحلامه ويفك أسرها من سحر الجنيات والساحرات! والسؤال عندي هو : لماذا أمعنت الشاعرة حين توغلت في اجواء الاساطير والحكايات الشعبية الغرائبية ؟ لن يكون الجواب على اي حال مقتصرا على ان الشاعرة وجدت الملاذ الآمن لاحلام يقظتها لتطمين عنفوان الرغبة التي حالت دون التحقيق ان الجواب في نظري تكمن في رغبة الشاعرة كفنانة ماهرة في صناعة قصيدة خالدة تمتع المتلقي وتشير الى استمرارية الشاعرة المبدعة في ريادتها وتطويرها للقصيدة العربية بصمت نبيل فضلا عن ان القصيدة كنص قابلة لقراءات كثيرة .
مثلا رصدت الشاعرة الرائدة اجواء القصيدة قبل كتابتها كما يفعل الروائي المحترف مثلا رصدت القطب الشمالي بمرصد الصورة الاستعارية لكي نقتنع بوجود الحبيب الثلجي المشبه به والليل المشبه ويحمل الشمس اليها كرات من النور والسنا ليضيء العتمة في الحياة الداكنة ! الحبيب الثلجي هذه الموازنة الفنية المعبرة بكفتي الحب والايمان لم تجمد الحركة
تتحرك الصور الثلجية في الجسد رغم حرارة الشمس وسناها . وقد اشركت الحواس الخمس في تشكيل المسرح الثلجي وبخاصة حاسة البصر واللمس نحن نشهد ليلا قطبيا يحصر المعنى بعيدا عن الدفء والحنان والحب بكل الابعاد ! لكن هناك تمازجا او تقابلا بين الثلج والشمس والحلم والصحو وما وراء الكواليس تطاير حمم البراكين بما يمثل حق المحلل في قراءة المسكوت عنه ! ولن استغرب من شاعرة نشات في محيط الذهب واليواقيت انها تشكل حبيبها من الياقوت كما أبدعته مخيلة الشاعرة ليكون البطل قريبا من المسرح الاسطوري ! ونعرف من خلال الجمل الشعرية ان العراف كان اخرس فاضطرت الشاعرة ان تأخذ دوره كي تنبيء نفسها وتفتح اعيننا على عالم لميعة الشعري المدهش .