نحن في زمن تتحكم فيه قوى جديدة ودخيلة على العصر الحديث، ومن هنا سندرس احدى القوى الخفية والقديمة والتي كانت تسير درب الأمم في العصور القديمة ومدى تخليها حاليا عن هذا العصر اللعين أو بالأحرى انقراضها في يومنا هذا.
ربما يقال بأن فعل الخير أمر لا يندثر حتى مع مر السنوات وتعاقب الأحداث، وهو واحد من القوى التي عمد اليها البشر بدأً بنزول الديانات السماوية، كون الانسان قديما لم يكن يعرف هذا المصطلح (فعل الخير)، فقديما لا يوجد سوى مبدأ واحد ألا وهو القوي يأكل الضعيف، الى حين أن أرسل الله الأنبياء والرسل، وها أنا هنا كي أعقب على الواقع المر الذي تعيشه المقاطعة التي ولدت وترعرعت بها والتي لا أود مفارقتها بتاتا كونها أسرت حياتي وجعلت مني مثقفا ومفكرا بمدارسها التي زاولت فيها مختلف العلوم والدراسات، ومدى انتشار مصطلح الخير بداخلها، ان ولاية باتنة وهي عاصمة الأوراس الأشم والمنطقة التي كانت بوابة تفجير ثورة التحرير الكبرى، كانت فيما سبق رمزا للشيم والقيم الأخلاقية، لكن تبكي عليها السماء اليوم قبل قلبي، فلم يبقى ما يرمز لتاريخها القديم وأصالتها العريقة.
وبذات هذه المقاطعة أنشأت مأخرا احدى الهيئات التي أرادت استرجاع المجد الضائع والوقار المندثر والتي دعت سكان المنطقة الى مبدأ سليم من ناحيتي، وهو فعل الخير، والتي أطلقت على نفسها (ناس الخير)، وما ان رأيتها أول مرة فهمت بأن الحياة لازالت تدب في هذه المنطقة بعدما خيلت لي سابقا أجساد الناس دون أرواح وبلا ضمائر، حينها تأكدت أن النفس الطاهرة والطيبة حية ترزق في مقاطعتي هذه.
لكن للأسف كانت كل توقعاتي أوهاما لا معنى لها، فمن يدعون أنهم يصنعون ويرسمون الخير في هذه الولاية التاريخية، ليسوا سوى مجموعة تدير ظهرها للخير، وتظهر للعيان أنها رمز للتقدم والحضارة، وأي حضارة، منذ متى والخير محصور في أشياء تافهة وبسيطة فأنا من جانبي لاحظت أنهم يرمون الى أشياء لا معنى لها ونحن في عصر السرعة والتطور، جمع الزيت والسكر والدقيق لتوزيعها على المحتاجين، ربما من يلقي نظرة أولى يعتقد بأننا دولة كالصومال أو اثيوبيا وهذا مؤسف جدا، وما هذه الا صورة مصغرة لما تفعله السياسة الجزائرية في الغرفة الأولى للحط من قيمة الشعب الجزائري وطمس تاريخه والحط من قيمته لدى دول العالم، والجزائر خرجت من أكبر الحروب المصنفة دوليا الا أن شعبها كان ثريا آنذك فكريا ومعنويا ولم تكن هناك تلك الرموز التي تدعي انتشار الفقر كما تذهب اليه هذه الهيئة التي تعتقد أنها فاعلة للخير.
ضف الى هذا متى أصبحت منحة الصدقة عبر صفحات الفيس بوك والاعلام والتشهير، والرسول عليه الصلاة والسلام أوصى بمنح الصدقات دون علم اليد اليسرى ما منحت اليمنى، وتلك هي تفاهة هؤلاء، ان الخير لا حصر له، ان الخير الأكبر لهو نشر الثقافة والوعي بين أوساط المجتمعات بجل شرائحها ودون استثناء، وليس جمع السكر والمعونة، ان الخير كلمة مقدسة عند الله وعند المجتمعات الأصيلة والتي تاريخها يحسب لها ألف حساب، ان الخير نشر الأخلاق السامية بين أفراد المجتمع، ان الخير سن قوانين تربوية ودينية، ان الخير تعليم أمة واخراجها من دائرة الجهل، ان الخير انشاء وتشييد عقول مفكرة تبني لنا المستقبل، وهذه عينة من أفعال الخير التي بنيت عليها الحضارة الاسلامية العريقة قديما، وما تفعلونه الآن يأتي في آخر المقام.
أقول جملة لن يناقضني فيها انسان على وجه الأرض وسأتحدى كل من يعطي رأيا مخالفا لهذا القول (أمة تقرأ تطعم نفسها، وأمة لا تقرأ تمد يدها للعيش)، وعوض أن تنشروا الوعي والثقافة يا (ناس الخير) أنتم تحرضون على نشر الخمول والكسل بهذه المبادرة التي تعتقدون أنها جميلة والتي هي في الواقع سيئة.
نحن الآن نطرق أبواب العام الرابع عشر بعد القرن العشرين، وأنتم لازلتم تحملون أفكارا قديمة بين جنباتكم، وهذا أمر محزن جدا، منذ متى والفقير يطلع على الفيس بوك ليعلم أين توزع الصدقة ومن هذا الفقير الذي يملك تكنولوجيا الانترنيت بمنزله، ومن هو الفقير الذي يملك منزلا بالأصل، ولنجعلوا ما تقدموا عليه عين الصواب، حتى أماكن توزيع الصدقات في العقيدة الاسلامية حددها رسولنا الكريم ببيوت الله عوض السوبرات والمحلات التجارية، وهذا من مبدأ أن رسولنا الكريم تفادى احراج الفقراء آنذاك وجعل الصدقة أمرا بين نية المرء وضميره.
نعم ان الحقيقة أمر يفر منه المرء في الوقت الراهن، لكن أكررها وأنا على يقين أني على حق، أنشروا العلم والثقافة، أنشروا الأخلاق السامية، كفاكم ركضا خلف توافه الأمور التي لا معنى لها دوليا ووطنيا وحتى جهويا، فالعالم لو يلقي نظرة عليكم لانتفض ضد كلمة (الخير) التي تستعملونها كعنوان لتهريجكم الذي تصنعوه، انها الحقيقة بكل المقاييس شاء من شاء، وأبى من أبى.
ان الاسلام دين حق، ورسولنا قدوة لنا فهو لم يعرف طعاما ولا شرابا بجنب صحابته رضوان الله عليهم، الا أنهم بنوا مجد الاسلام بالعلم والأخلاق، كما أني لاحظت عند تصفحي موقعهم على الانترنيت الرياء الأعظم والنفاق الشديد، أقولها بحق كوني رجل شريف وحر، وللأسف الشديد لم أجد ولا آية قرأنية أو حتى حديث نبوي شريف يعتلي صفحتكم الموقرة، أو بين أطرافها، وهذا مؤسف وغريب جدا ان فعل الخير مرتبط بديننا الحنيف والاسلام غائب عن صفحتكم فكيف للخير أن يكون متواجدا بها.
أيها الأشخاص اني أقترح عليكم من هنا أن تكفوا عن فعل الخير ان كان هكذا فعله، وأن تلتفتوا لأنفسكم وتثقفوا عقولكم جيدا فهي تحتاج لخير منكم علها تشفع لكم يوما ما، وأنا هنا كي أنقد هذه الفكرة كوني انسان غيور على الحق ولا ألتمس الباطل الا سهوا أو خطأ.
وكان لمروري بعدد من هؤلاء المنظمين الكرماء من ناس الخير، وحديثي اليهم الأثر في كتابتي هذا المقال الخاص، ذلك أن من حدثتهم لا يملكون حتى القدرات التي تكفي لحرفي التعريف التي تبدأ بهما كلمة (الخير)، وموقفي هذا محصور مع احترامي لجميع من بشق طريق الخير في العالم أو الجزائر، بل أنا هنا لأوجه كلامي لفئة محددة (ناس الخير لولاية باتنة)، وكي لا يظلمهم قلمي هم الآخرين قد نجد بينهم من هو دليل للخير حقا غير أنه ساقته صورة أولئك لينجر خلفهم بنية صادقة، غير أن الله يعلم ما تخفيه الصدور.
يا من تدعون فعل الخير اذهبوا وتعلموا من الحضارات الغربية كيف يتم فعله على المعايير الدينية والدولية، وذلك متمثل في هيئات حقوق الانسان، الأنوروا، اليونيسكو، هيئات حماية حقوق المرأة، هيئات التعبير الحر، هيئات الفكر الثقافي والعلمي، وكل هذه الهيئات مجالات انسانية خيرية ليس سبيلها جمع الزيت والقمح فقط بل نشر الوعي وتشييد المدارس ودور الحضانة، ونشر المقالات المفيدة والكتب القيمة لتعليم فئات المجتمع، وتطوير جيل راق فكريا وثقافيا.
للأسف أعلم أن مقالي هذا مس حقا ذاتكم، لكن الحقيقة التي تقال به تعد خيرا في معيار الدين الاسلامي، كيف لانسان قابل للاستعمار فعل الخير، كيف لانسان يقدس لغة مستعمر عاث في بلاده فسادا وجورا وكفرا أن يفعل الخير، فصفحة دعاة الخير كما يتوهمون ناطقة بالفرنسية أغلبها، فهم ها هنا مازالوا يخضعون لاستعمار لغوي، وكيف للمستعبد أن يصدح بفعل الخير (صدق العلامة مالك بن نبي رحمه الله).
من لا يعرف تاريخ بلاده وما فعلته فرنسا العدو ببلاده انسان جاهل، فكيف للجاهل أن يدعي فعل الخير وهو لم يتصدق حتى على عقله بقليل من الثقافة حول تاريخ بلاده.
أخيرا ان العفو ثقافة الكبار، واني أعتذر ان مسست منكم انسانا سيطرت عليه نواياه الطيبة، اني ولكوني لا يروق لي الفرار من واقعنا وكوني لست من أصحاب السهر على التفاهات صرحت بموضوعية مقالي هذا والذي وان لقي اجماع الجميع أو لقي رفضهم، سيبقى حتما طرحا لفكرتي وما يختلج صدري ورأيي الخاص ومن أبى فأنا أحترمه، ربما لأني اغترفت ما شئت من الثقافة والتي كان مصدرها الخير الذي منح لي في مسيرتي الحافلة.