اخبار الساعة - صنعاء
صارت تعز أشبه (بمراية) لتطورات ما يجري في صنعاء، أو مجرد “كوبي” ونسخة مصغرة لحالة التجاذب والصراع بين كبار النافذين في العاصمة، وأرباب الصراع في المناطق الساخنة حولها، يشعلونها عندما يريدون، وتهدأ عندما يريدون لها أن تهدأ..
كانت تعز في الزمن الغابر السبَّاقة دوماً إلى الإمساك بزمام المبادرة في كل ما يتعلق بالقضايا الوطنية والمتغيرات التاريخية، غير أن الوضع تغير في العقدين الأخيرين وازداد تغيراً في السنوات الأخيرة، لتصبح تعز فزاعة يستخدمها قراصنة السلطة لتخويف بعضهم البعض، وحصر أبنائها في سلة التبعية والانقياد.
خلال الأسابيع وربما الأشهر الماضية، شهدت تعز عدداً من الأحداث وحالات العنف والمواجهة في إطار محاولات مراكز النفوذ في العاصمة تخفيف الضغط عن أنفسهم وتوريط أبناء الحالمة في أتون الصراع لصالح هذه المراكز، واستمرت هذه الحالة إلى قبيل العيد حيث كادت تعز تنزلق إلى صراع مذهبي بين سلفيين وموالين لجماعة الحوثي، رافقها اعتداء على منشآت أمنية وعسكرية..
وبحسب مصادر مطلعة فإن ما جرى في جحملية تعز من مواجهات مسلحة لم يكن وليد صدفة بل كان جزءاً من خطط وسيناريو سيحاول صانعوه اخراجه الى الواقع قدر استطاعتهم، حيث تشير هذه المصادر إلى أن الشيخ حميد الأحمر التقى بمقربيه ووجههم بضرورة فتح أكثر من جبهة للحوثي لاشغاله واضعاف قوته ومنها جبهة نهم.
غير أن الوضع في تعز بدا وكأنه يسير في اتجاهٍ آخر منذ عيد الفطر وما بعده، وترددت أحاديث كثيرة حول مصالحة وطنية، وطي صفحة الماضي، وبطريقة غير مسبوقة التقى رموز الصراع والتباينات السياسية في تعز من النظام السابق والنظام الجديد والذين يمثلون ظلاً لمراكز النفوذ في العاصمة، ومن أبرزهم الشيخ الإصلاحي النافذ حمود سعيد المخلافي، والشيخ المؤتمري سلطان البركاني، وناطق المؤتمر عبده الجندي.. التقوا جميعاً للمرة الأولى منذ اندلاع الثورة، وتحدثوا عن ضرورة عقد المصالحة وإنهاء الأحقاد ومعاملة بعضهم البعض كإخوة وحبائب..
طبعاً، لا غرابة في هذه التناقضات، فحالة التوتر والصراع والعنف التي هددت تعز كانت متزامنة مع حالة التوتر والاحتقان والصراع السياسي في صنعاء وعمران، بينما مشاهد المصالحة التي تم تدشينها من منزل الشيخ حمود المخلافي خلال إجازة العيد، جاءت بعد مشهد المصالحة الأبرز الذي جرى في جامع الصالح يوم العيد بين الرئيس السابق والحالي بالإضافة إلى الجنرال علي محسن وأحد أولاد الشيخ الأحمر..
تكرار مشهد ما يعرف بالمصالحة في تعز وخلال فترة زمنية وجيزة، يكشف كم هي تعز مرتهنة لما يدور في صنعاء، وإلى أي مدى يتساقط أبناؤها ضحايا لتناقضات الحرب والسلام بين مراكز النفوذ في العاصمة..
في منزل المخلافي تحدث سلطان البركاني بكلمات مستفزة، حينما شدد على ضرورة إنهاء ما وصفها بـ “الأحقاد” والبدء بمصالحة ليصبح الجميع أخوة.. هذه المصالحة وبهذا الشكل الفج نسفت تطلعات أبناء الشعب بالتغيير، وقضت على آمال شباب الثورة.. نقول “الثورة” التي حولها رموز المصالحة إلى مجرد أحقاد وعداوات شخصية وصراعات مصالح يمكن إنهاؤها بالمصالحة الشخصية بين هؤلاء الرموز..
ما حدث في اليمن ثورة شبابية شعبية سالت من أجلها الدماء وارتقى خلالها شهداء، هكذا كنا نعتقد على الأقل، لكن طريقة وأسلوب المصالحة ورموز كشفت لنا شيء آخر، مؤلم ومفزعاً، مؤكدين لنا أن ما حدث كان مجرد أحقاد وضغائن وصراع بين علي محسن وعلي عبدالله صالح، وأزلامهما في تعز أي بين حمود المخلافي وسلطان البركاني ، بينما الرئيس هادي كان مجرد فاعل خير نزع فتيل الصراع وحافظ على الكرسي حتى يعود إليها أصحابها، وليس من المستبعد أن يخرج حميد الأحمر أو قيادي في الإصلاح ليقول لنا أن إسقاط علي عبدالله صالح كان غلطة دفعنا ثمنها، وأنه لا بد من إعادته إلى السلطة لأنه فارس الشدائد وقاهر المتمردين..
هذه ليست مصالحة، تماماً مثلما يمكن أن نقول عن الحالمة، هذه ليست تعز التي نعرفها.. المصالحة ليست صفقة بين قراصنة السلطة، وتعز ليست مراية رخيصة الثمن.تعز دفعت ثمناً باهضاً من أجل التغيير وليس من أجل المصالحة بين الذئاب .. تعز تعرضت لمحرقة لم تحدث في أي ساحة أخرى من ساحات الثورة، ليس لشيء سوى أن الاحقاد كبيرة ضد تعز .. تعز بحكم ريادتها الثورية ينبغي ألاّ تصفق للمصالحة بين مصاصي الدماء وسفاحي العصر بل يجب عليها أن تدعو الى تطبيق القانون وتقديم الجناة إلى العدالة .. لا يحق لسلطان البركاني أو حمود المخلافي أن يطووا الصفحات قبل أن يقدم قيران وضبعان والعوبلي للمحاكمة.
المصالحة لا يمكن أن تكون عبر إفشال الثورة وخيانة الشهداء وقهر الجرحى وتركيع الشباب الثائر.. المصالحة الحقيقية هي العدالة الانتقالية بين حكام ومحكومين.. هي المصالحة المنصفة بين الضحايا والجلادين القائمة على أساس جبر الأضرار والاعتذار من الضحايا واعتراف الجناة بما اقترفته أياديهم وطلب الصفح من المظلومين والقسم على عدم تكرار تلك الجرائم.. أما ما نراه اليوم من مصالحة بين شركاء الحكم وتقاسم السلطة والنفوذ، بين جلاد وجلاد آخر، بين ظالم وظالم مشابه، فهي ليست مصالحة بل مسرحية تراجيدية بيعت فيها أحلام الشعب وأجهضت بها ثورة الشباب.
تعز تنتظر الشرفاء من أبنائها الذين يعيدون لها كرامتها لتستعيد شموخ ريادتها العابقة بالحضارة والأصالة وتكون قادرة على الفعل المستقل، وعلى الأخذ بزمام المبادرة أمام كل المتغيرات التاريخية والتحولات الوطنية الكبرى.
نقلا عن المستقلة