بعدما اتضح أن أنقرة وزن لا يستهان به داخل أوروبا، فهي تثبت الآن أنها قوة ذات أثر متعاظم في الشرق الأوسط المضطرب ابدا. وفوق هذا فهي تبدو الوحيدة الآن التي تمسك بمفتاح الحل في سوريا.
بشار الأسد، في تجاهله للكارثة الإنسانية الهائلة التي تتكشّف في بلاده ومقاومته للتغيّر، يبدو وكأنه قد انفصل تماما عن الواقع بما في ذلك الحقائق السياسية التي لا تخفى على العيان في الشرق الأوسط.
وقد يكون في استبعاد الأسد، بإشارة عابرة من يده، الانتقادات الغربية والدعوات القلقة من الجيران العرب الى ضرورة التغيير والإصلاح شيء من التهور. أما أن يصر على إرسال قوات نظامه لحصد أرواح أبناء شعبه في نفس الوقت الذي يحذره فيه وزير الخارجية التركي من غضب أنقرة المتنامي إزاء إرقته الدماء عبر حدودها، فهو يغامر حتى ببقاء نظامه القمعي أيضا.
عملاق إقليمي
الواقع أن حلفاء تركيا الغربيين غالبا ما يقللون من شأنها السياسي والعسكري.. ربما على خلفية الذكريات الباقية عن ضعف الامبراطورية العثمانية، والانقلابات العكسرية التي أعيتها في تاريخها الحديث، ومن الناحية الاقتصادية التضخم الهائل وعدم الاستقرار المالي.
لكن تركيا ، وفقا لصحيفة «تايمز البريطانية»، تقف اليوم عملاقا إقليميا. فهذه الدولة، التي تضم 74 مليون نسمة وتنمو سنويا بمعدل 9 في المائة، تحتل المرتبة السادسة عشرة في قائمة الدول الأفضل حالا اقتصاديا في العالم. وهي تعج بالاستثمارات الأجنبية وتتطلع لأداء دور متعاظم في مختلف المجالات على الساحة الدولية.
عين على الرقاع العثمانية - العربية
رجب طيب اردوغان، الذي انتخب للمرة الثالثة بأكثر من 50 في المائة من الأصوات، صار صاحب الفترة الأطول في كرسي الحكم منذ مصطفى كمال أتاتورك. وبينما ظل رئيس الوزراء يسعى لتطبيق سياسات السوق الحرة بعين مفتوحة على الانضمام الى الاتحاد الأوروبي، فقد فتحت آيدلوجيته الإسلامية عين تركيا الأخرى – للمرة الأولى على مدى 90 سنة – على الرقاع العثمانية القديمة في العالم العربي الذي يتطلع الآن اليها والى نجاحاتها باعتبارها النموذج المحتذى.
وقد كانت إحدى إنجازات اردوغان الأولى هي تحسين العلاقات السيئة مع سوريا نتاج النزاع الأزلي على الحدود وأيضا إيواء نظام دمشق المدفوع بالغرض لمؤسس حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان.
وقد أثبتت أنقرة أنها لا تتهيب توظيف جيشها الهائل للوصول الى مصالحها الإقليمية، مثل ما فعلت مرارا وتكرارا في شمال العراق وأيضا عندما حشدت قواتها على الحديد السورية وضمنت بذلك انصياع دمشق وطردها أوجلان من أراضيها. وتبع هذا تحسن العلاقات التجارية بين البلدين وراحت سوريا تعتمد أكثر فأكثر على جارتها القوية من أجل دعم تنميتها المتوقفة تقريبا.
تهديد على صعيدين
يعود السبب في حصول اردوغان على أسهم عالية الشرق والغرب على حد سواء الى مهارته العالية في إيجاد نقاط التواؤم بين الديمقراطية الغربية والتعاليم الإسلامية. لكن الانتفاضة السورية تهدد بلاده على صعيدين: الأول هو عدد اللاجئين المحتملين الذين سيغرقون الأراضي التركية هربا من قمع الأسد. والثاني تعزيز ساعد الأخوان المسلمين والأصوليين الآخرين الذين يعارضون نوع الديمقراطية الإسلامية التي يسعى اليها اردوغان.
وقد التقى رئيس الوزراء التركي بالرئيس الأسد عددا من المرات وحذّره من أن الحديث عن الإصلاح لا يعني الكثير وأن المطلوب هو الإصلاح نفسه. وفي كل مرة كان الرئيس السوري يرد بالكليشهات المعتادة عن العصابات الإرهابية. وإذا كان مثل هذا الرد لا ينطلي على رجل الشارع العادي، فما بالك بسياسي مثل أردوغان، أثبت في انتصاره الباهر قبل أيام على رموز المؤسسة العسكرية إنه من معدن خاص مصقول بالذكاء العالي؟
غزو تركي بعد أسبوعين؟
الان قدمت أنقرة لنظام الأسد اسبوعين لإيقاف حصاد الأرواح. وصحيح أنها لم توضح نوع ردة فعلها في حال استمر الأسد في تجاهلها. لكن العواقب واضحة وتتلخص في الآتي: غزو عسكري بغرض حماية المصالح التركية.
ولأن الغرب عاجز عن التحرك لوقف عمل ماكينة الأسد العسكرية وسط شعبه، فسيتغاضي عن أي غزو تركي من ذلك القبيل. ويصح القول إن الدول العربية نفسها لن تحرك ساكنا في سيناريو كهذا. ويبدو أن الرئيس باراك اباما يتهيأ الآن لدعوة الأسد علنا الى التنحي. لكن تركيا هي الوحيدة التي يمكن ان تضمن هذا لأنها – على عكس أميركا – تتحدث من موقع القوي القادر.