أخبار الساعة » كتابات ومنوعات » اقلام وكتابات

الوقاحـــــــة كــــــــنز لا يفــــــــنى (2) الثـائــــر الســـــوْبَر الذي لم يـنضــــم الى الثــــورة أصـــلا

- نبيل سبيع
لم يزر حميد الأحمر ساحة التغيير في صنعاء منذ تأسيسها في فبراير الماضي، وقد عزا سارداسان غرافان في تقريره الذي نشرته الواشنطن بوست مؤخرا ذلك إلى إدراكه أنه لن يلقى ترحيبا هناك في حين أعاد حميد نفسه ذلك إلى أمر آخر. قال: "لا أريد أن يقول أحد إن حميد الأحمر... جاء ليسيطر على الثورة وإنه يريد أن يجعل نفسه زعيم اليمن". لكن عدم زيارته للساحة حتى الآن يعود على الأرجح الى أمر آخر تماما.
يعتبر علي عبدالله صالح نفسه "الدولة" و"الوطن" وهذا ما بدا واضحا في سائر خطاباته كما في الشعارات واللافتات التي رفعها مؤيدوه في ميدان السبعين في فعاليات أيام الجمع الجماهيرية خلال فترة ثورة الشباب السلمية، وقد عكس ذلك 33 عاما من ممارسة الحكم من موقع "أنا فوق الدولة والوطن". في المقابل، يعتبر حميد الأحمر نفسه "الثورة" كما يبدو واضحا في أغلب تصريحاته خلال فترة الثورة والتي كان آخرها تلك التي أدلى بها في مقابلة أجرتها معه الصحيفة الأميركية ونشرت تقريرا عنها في الثالث من سبتمبر الجاري، وقد تصرف بالتوازي مع هذا كرجل فوق الثورة والثوار وفوق الدولة المستقبلية المرتقبة أيضا. وهذه الفوقية انعكست في رده على سؤال حول نيته الترشح للرئاسة مستقبلا: "إذا رشحوني واعتقدوا أني الشخص المناسب، نعم، ولم لا؟".
قد تبدو هذه الإجابة عبارة عادية تصب في سياق العملية الديمقراطية وتعكس احترام قائلها لإرادة الشعب، الركيزة الأساسية للدول الديمقراطية حيث يسود حكم القانون والمواطنة المتساوية. لكنها في الواقع عبارة مضادة للديمقراطية ودولة القانون والمواطنة المتساوية. وإليكم تشريحا لهذه العبارة الخطيرة.
تذكر عبارة حميد الأحمر هنا بحادثة معروفة في الوسط البرلماني والأوساط السياسية والصحفية في اليمن كان والده الشيخ الراحل عبد الله بن حسين الأحمر رحمه الله بطلها. في اجراءات الترشح للانتخابات الديمقراطية على أي موقع، من المعروف أن من يرغب ترشيح نفسه يتقدم الى الجهة المعنية بطلب ترشيحه، وفي ما يتعلق بالترشح لموقع سيادي كرئاسة البرلمان والدولة حيث يكون مضمار التنافس عادة بين أحزاب، يتعين على المرشح ان يقدم طلب ترشح الى حزبه ليقدم الأخير طلب ترشيح بإسم هذا المرشح الى الجهة المعنية. وقد كان على الأحمر الأب أن يقوم بهذه الخطوات تقريبا في الانتخابات البرلمانية لعام 1997.
لكنه كان يعتبر نفسه مرشحا غير عادي. لذا، رفض تقديم ورقة طلب ترشيح لمنصب رئيس مجلس النواب، وهو اجراء روتيني تفرض لوائح المجلس على كل مرشح المرور به. وأضطر المجلس إلى قَـلْـب معادلة الترشح رأسا على عقب: تقدم المجلس اليه بدلا من ذلك بورقة طلب فيها الأخير منه الموافقة على ترشيحه له لرئاسته في حادثة استثنائية لم يشهد تاريخ الانتخابات البرلمانية في سائر بلدان العالم وتاريخ الديمقراطيات كلها مثيلا لها. وقد تفضل الأحمر الأب مشكورا بالكتابة على الورقة: "أوافق على الترشح".
قد يبدو هذا الخرق الذي تغاضى المجلس عنه إرضاء للأحمر الأب بمثابة خرق بسيط وشكلي للوائح الإجرائية المنظمة للعملية الديمقراطية لا تأثير عليه كبيرا في مسار الأخيرة، لكن الدول والديمقراطيات منها خاصة مثل البيوت يبدأ انهيارها بذرة من الرمل. تعالوا نلقي نظرة على كلفة وتبعات وأبعاد هذا الخرق أو ذرة الرمل هذه بعبارة أخرى.
المكان الذي سقطت منه ذرة الرمل هذه يحتل أهمية بالغة الحساسية والخطورة: قبة البرلمان. وقد شكل هذا السقوط بداية إنهيار القبة التي يجري تحتها تشريع القوانين كافة، وبشكل متعمد من قبل فرد من المفترض أن يحرص على إظهار أقصى درجات الاحترام والالتزام بالقانون لأنه يقدم نفسه لممثلي الشعب في مضمار التنافس على موقع رئاسة السلطة التشريعية في البلاد. (إذا كان مرشح رئاسة للسلطة التشريعية لا يحترم أبسط القوانين الإجرائية الشكلية التي يتوجب عليه الالتزام بها في طريقه الى هذا الموقع، ما الذي سننتظره منه عند مزاولته مهامه بعد وصوله الى هذا الموقع من قوانين؟). وقد عبر رضوخ البرلمان لرغبة فرد من ابناء الشعب، هو الأحمر، عن رضوخ أعلى سلطة دستورية في البلاد لمزاج هذا الفرد واعترافا صارخا منها بأنه يقف فوق القانون والعملية الديمقراطية.
هذا الإعتراف شكل إعترافا بالتمييز بين مرشح وبقية مرشحي موقع رئاسة البرلمان. ففي حين يتوجه الجميع إلى سلطة أعلى منهم بطلب الاشتراك في عملية التنافس الديمقراطية، كان على الأخيرة برمتها أن تتوقف حتى تتوجه السلطة التشريعية، وهي أعلى سلطة في البلاد، إلى الأحمر طالبة منه الترشح للانتخابات وراجية موافقته. وقد شكل هذا اعترافا من أعلى سلطة في الدولة بأن هناك مرشحا استثنائيا، أو مرشحْ سوبرْ، يتمتع بموقع استثنائي دون الآخرين. إن صيغة "أوافق على الترشح" تلتهم مبدأ دولة القانون القائل بأن "القانون فوق الجميع" إذ تضع هذا الشخص المميز فوق القانون والعملية الديمقراطية وأعلى سلطة في الدولة، وفوق جميع أفراد الشعب بالتالي.
واقع المرشح السوبر الذي فرضه الأحمر الأب تحت قبة البرلمان واعترف به الأخير مثل تكريسا واعترافا بواقع مواز خارج هذه المؤسسة الحساسة: واقع المواطن السوبر، وهو واقع تمييزي يحيل إليه ويشرعنه موقع المرشح السوبر الذي اجترحه لنفسه ليس خارج دائرة ممثلي الشعب فحسب، وإنما أيضا وبالنتيجة خارج دائرة أفراد الشعب. لقد مثل رفض الأحمر الأب لصيغة "أطلب الترشح" ليس رفضا لدولة القانون والديمقراطية فقط وإنما قبل ذلك لدولة المواطنة المتساوية، وقد شكل تعديلها الى "أوافق على الترشح" اعترافا صريحا بدولة التمييز في المواطنة.
لم يكن الأحمر الأب الوحيد الذي يتمتع بوضع المرشح والمواطن السوبر، لم يكن الوحيد الذي يقف فوق الجميع. فإلى جانبه، كان هناك مرشح ومواطن آخر يشاركه صفة سوبر ويقف فوق اليمن واليمنيين: علي عبد الله صالح الذي قال عشرات المرات خلال الثورة بأنه غير متمسك بالسلطة وليس متشبثا بها وأن "السلطة مغرم وليست مغنم". لكنه كلما كان يكرر هذه العبارة أكثر، كان تشبثه بالسلطة يزداد ويعبر عن نفسه بسفك دماء اليمنيين.
لم تكن هذه المفارقة سوى جزء من مفارقة طويلة امتدت طيلة 33 عاما من حكم الرجل الذي قال قبل صعوده إلى الرئاسة للأحمر الأب ما مفاده إنه لا يريد البقاء في الحكم أكثر من أسبوع واحد للانتقام من قتلة سلفه أحمد الغشمي، كما أفاد الشيخ الراحل في برنامج "مهمة خاصة" الذي بثته قناة الجزيرة قبل أعوام.
لكن هذا الأسبوع امتد ثلاثة عقود ونيف، وقد كان حكم الرجل كله انتقاما متواصلا، ولكن ليس من قتلة الغشمي (لأنهم غير معروفين حقيقة تماما مثل منفذي محاولة اغتياله)، وإنما كان انتقاما من الشعب اليمني. وفي نهاية المطاف، وصلنا إلى ضرورة القيام بثورة من أجل انهاء ذلك الاسبوع الدامي.
لم تعرف اليمن شمالا وجنوبا حاكما متشبثا بالحكم أكثر من صالح منذ ثورتي سبتمبر وأكتوبر في ستينيات القرن الماضي. مع ذلك، هو لم يقل يوما بأنه متشبث بالحكم. على العكس تماما من ذلك، هو لم يكف يوما عن الاعلان عن رغبته الشديدة في مغادرة السلطة. وقد شكل اعلانه قرار عدم الترشح للانتخابات الرئاسية في سبتمبر 2006 محطة شهيرة في هذا الصدد. وكلنا يعرف ما الذي حدث بعد ذلك: خاض الانتخابات وكسبها بالكثير جدا من الترهيب والعنف والتزوير.
لقد بدا قراره عدم الترشح للانتخابات الرئاسية عام 2006 مفاجئا للرأي العام الخارجي والداخلي وقد ركزت القنوات الفضائية ووسائل الاعلام العربية على هذا القرار باعتباره نهائيا وأتذكر أن بعض الحوارات التلفزيونية تركزت عامذاك على السؤال التالي: لماذا لا ينحو حسني مبارك وزعماء عرب آخرون منحى الرئيس اليمني الذي بدا بطلا قوميا للزهد في الحكم؟
لكن ما لم تكن تعرفه تلك القنوات هو أن هذا القرار أتى ضمن سلسلة من القرارات المماثلة التي تبدأ منذ بداية حكمه. ففي انتخابات 1999، أظهر صالح عدم تشبثه بالحكم على نحو مماثل. وقبل ذلك بـ 13 عاما، أقدم على خطوة أبعد في تأكيد زهده في الرئاسة بل وأبدى كراهية للاستمرار فيها. هل تعرفون أنه قرر رسميا ذات مرة عدم الترشح للرئاسة مجددا وبقي ثلاث ساعات خارج الحكم؟
حدث هذا عام 1986 حين قدم قراره هذا لمجلس الشعب التأسيسي (المجلس التشريعي في الشمال حينها) وعاد إلى منزله حيث أنتظر بفارغ الصبر وفقا لرواية أحد شهود تلك المرحلة وصول وفد من المجلس يطالبه ويترجاه العدول عن قراره. وقال الشاهد نقلا عن شخصية مرموقة تولت ايصال طلب المجلس إلى صالح رجح أنه الحجري إن الأخير مازحه قائلا: "الآن أنت مواطن ولست رئيسا" وأن الانزعاج طفح على وجهه من هذه المزحة "الثقيلة!". وأضاف نقلا على لسان الرجل قوله إنه شعر لحظتها أن الساعات الثلاث تلك كانت أقسى ثلاث ساعات في حياة صالح.
تلخص هذه الحادثة كل شيئ بشأن التشبث بالسلطة في ظل الإدعاء بعدم الرغبة بها، بقدر ما تثير سؤالا: لماذا يلجأ صالح والأحمر إلى هذه الادعاءات المكشوفة؟
سبق لي أن قدمت عرضا لسلسة قرارات العدول عن الترشح التي اتخذها صالح في آخر حلقة (الثالثة) من مقال متسلسل حمل عنوان "انقسام الذات لدى علي عبدالله صالح"، وهي الحلقة التي تطرقت فيها أيضا إلى واقعة رفض الاحمر الأب تقديم طلب الترشح لرئاسة مجلس النواب، ونشرتها صحيفة "الثوري" الناطقة باسم الحزب الاشتراكي اليمني قبيل انتخابات الرئاسة 2006. وقد بينت في تلك الحلقة أن صيغة "أوافق على الترشح" تلتهم مبدأ المواطنة المتساوية ومبدأ دولة القانون. وأكثر من هذا وذاك، هناك أمر آخر تفضي إليه هذه الصيغة ويجر تبعات كارثية.
صيغة "أطلب الترشيح" تحيل الى المنافسة بين مجموعة من المواطنيين على الفوز بمناصب في الدولة سيمارسون فيها واجباتهم الوظيفية في خدمة الشعب. وعندما تؤدي عملك كرئيس للبلاد أو مجلس النواب باعتباره واجبا، فإن هذا يعني انك ستخضع للمساءلة والمحاسبة من قبل الشعب والدولة عند تقصيرك في أداء هذا الواجب. أما صيغة "أوافق على الترشيح" فإنها تحيل إلى انعدام المنافسة الديمقراطية بين المواطنيين على الفوز بمناصب في الدولة لأنها تعترف بوضع مميز واستثنائي لفرد أو أفراد بعينهم يقفون فوق عملية التنافس والديمقراطية والشعب والدولة بشكل عام. وهي تحيل الى أن مزاولتهم مهامهم في مواقع الدولة لا تأتي كواجب تجاه الشعب والبلد وإنما كـ"مكرمة". والمكرمة بالطبع تلغي مبدأ الخضوع للمساءلة والمحاسبة من حيث المبدأ.
لا يمكن فهم عبارة "السلطة مغرم وليست مغنم"، التي درج صالح على ترديدها خارج مفهوم تعامله مع مهمته كرئيس للجمهورية باعتبارها "مكرمة" وليست واجبا ومسئولية. ومن أجل تكريس هذا المفهوم المنحرف للسلطة، كان يقوم بتحشيد الجماهير لمناشدته العدول عن قرار عدم الترشح بعد اعلانه معتمدا على فكرة أساسية عمل على ترسيخها طيلة حكمه، ألا وهي أنه المرشح الأوحد الذي يستطيع الامساك بزمام البلاد وحفظها من الانزلاق نحو الهاوية، وهذه مسألة معروفة للجميع وتعبر عن نفسها بصور مختلفة في الخطاب السياسي والاعلامي وقد بلغ هذا الأمر ذروته في ميدان السبعين حيث ارتفعت على الدوام لافتات وشعارات تقول إن صالح هو "الوطن" وإن رحيله سيشكل انهيارا للأخير.
لم يقل حميد في مقابلته مع الواشنطن بوست هذه العبارة حرفيا، ولكن أغلب تصريحاته والمعلومات التي خرج بها الصحفي من لدنه لا تصب بعيدا عنها. وقد بدا هذا واضحا في تصريح أخيه الأكبر الشيخ صادق الذي عكس روح مقولة صالح "السلطة مغرم وليست مغنم" عند رده على سؤال حول إذا ما كان حميد سيترشح للرئاسة. قال إنه لاينصحه بتولي الرئاسة لأنه بذلك سيحمل عبئا.
وأيا يكن من أمر، فإن تعمده اظهار أن الثورة ثورته لم يبد واضحا فقط من خلال المعلومة الخطيرة التي تفيد أنه مول الثورة في المحافظات من المايكروفونات وحتى وسائل المواصلات، وهي المعلومة التي بالرغم من أن الصحفي لم يوردها على لسانه، إلا أنه من المستبعد أنها لم تصدر من طرف آخر غيره أو يمثله لأنها تتحدث عن تفاصيل وأمور محددة فضلا عن أن أحدا لن يتولى التبرع بالدعاية له بمعلومة كهذه لاسيما وأنها معلومة كاذبة تماما كما ذكرت في الحلقة السابقة. وهذا ناهيك عن أنه لم يصدر نفيا لها حتى الآن.
هذه لم تكن المعلومة الوحيدة التي تقدم حميد باعتباره صاحب الثورة، إذ لم يكف يوما عن التحدث والتصرف انطلاقا من هذا الموقع الذي صنعه لنفسه دون التفات لأحد. وقد أتى اعترافه بدور اللقاء المشترك بالصيغة التي أوردناها في الحلقة السابقة من هذا الموقع، وهي الصيغة التي توحي بحركة من يفسح مجالا بسيطا لبعض الشركاء الهامشيين الى جانبه في ظل هيمنته على متن المشهد. قال: "لكي أكون عادلا، علي أن أذكر أنه من دون أحزاب اللقاء المشترك ومن دون بعض هذه الشخصيات، لم تكن الثورة لتصل إلى ما وصلت إليه. وإذا لم يقدر بعض الناس دور بعض القادة، فلن يقدروا حقوق الآخرين". ويمكن للقارئ التقاط روح "أنا الثورة" في هذا الاعتراف الذي لا يعكس إيمان المتحدث بحقيقة هذا الدور قدرما يعكس نبرة المجاملة.
وليت الأمر اقتصر على هذا فقط.
لقد اعترض بعض القراء والمعلقين على الحلقة الأولى من مقالي قائلين إن حميد لم يقل في التقرير أن الثورة ثورته، لكن هذا غير صحيح. فمن يريد أن يصل إلى الحقيقة لن يصل إلى النتيجة التي وصلت إليها فحسب وإنما إلى ما هو أكثر.
فهو تحدث بلسان "أنا الثورة" كما كان صالح يتحدث بلسان "أنا الدولة" و"أنا الوطن"، وقد حرص على إظهار أن الثورة ثورته بشتى السبل التي تطرقت الى بعضها في الحلقة السابقة. وحتى يقطع الشك باليقين بالنسبة إلى القارئ الغربي، عمل على ترسيخ أنه أول من طالب صالح بالتنحي عام 2005، وهذه هي المعلومة التي أوردها الصحفي على غرار معلومة تمويله الشامل للثورة دون مصدر، ولكن حميد قالها أكثر من مرة في مناسبات أخرى. وقد تبدو هذه مسألة عارضة، لكنها على قدر كبير من الأهمية والخطورة.
لا تنظر بعض القراءات الغربية إلى الثورة الشبابية السلمية في اليمن باعتبارها وليدة ثورتي تونس ومصر تماما، بل تتعقب جذورا لها في السنوات السابقة لهذا العام. فهناك الاحتجاجات الجنوبية السلمية التي بدأت ارهاصاتها مطلع عام 2006 وأطلقت حركات احتجاجات بصور مختلفة هنا وهناك. وسواء تعمد أو لم يتعمد من خلال هذه المعلومة إظهار دوره المركزي والحاسم في العملية السياسية في البلاد، فإنه بهذا يبدو للغرب باعتباره الرجل الذي لم يثر اليمنيون إلا بعد أن رفع اصبعه طالبا منهم الثورة. ولابد أن هذا أمر في غاية الخطورة من الخطأ الفادح والقاتل تغاضى الثوار عنه وتركه يمر.
لا يمكن تفهم وجهة نظر بعض الثوار الذين يعترضون على توجيه النقد إلى حميد أو اي شخصية أو مكون انضم الى الثورة في هذه اللحظة بحجة أن ذلك يخدم النظام ويشكل ضربة للثورة، وقد كان هذا هو السبب الذي وقف وراء صمتي أنا شخصيا حيال سلسلة طويلة ومتصاعدة من الأخطاء طيلة الشهور السبعة الماضية وأعتقد أن الكثير من الصحفيين والكتاب الذين انخرطوا في الثورة صمتوا لنفس السبب. لكن، تعالوا نسأل: ما الذي يخدم النظام ويضرب الثورة، مقابلة حميد في الواشنطن بوست أم الحلقة الأولى من هذا المقال؟
يعرف الجميع أن نظام صنعاء سعى منذ البداية إلى تصوير أن الثورة عبارة عن أزمة سياسية من خلال القول بأن اللقاء المشترك وليس الشعب اليمني من خرج إلى الى الساحات. وقد تطور الأمر بشكل واضح بعد حرب الحصبة إلى تكريس صورة أخرى أشد سوءا عن الثورة باعتبارها صراعا عائليا داخل أجنحة الحكم بين عائلة صالح وآل الأحمر، وهو ما باتت وسائل الاعلام الغربية والدولية عموما شبه مقتنعة به منذ حرب الحصبة. وها هو حميد في حديثه للصحيفة الأمريكية الشهيرة والمؤثرة يؤكد هذه الصورة الخاطئة عن سبق إصرار وترصد! في حين أن من قرأ الحلقة الأولى وكان منصفا، سيجد أنني دافعت عن الثورة في وجه التشويه الخطير والمتعمد الذي طالها من قبل حميد فضلا عن أن دفاعي هذا كان في الأساس دفاعا عن الحقيقة كما أراها. فقد سعيت إلى تقديم ما أراه أنا من داخل الثورة وما أحمله من قناعة عن صورة هذه الثورة الحقيقية، ألا وهو أنها ثورة الشعب اليمني وليست صراعا عائليا بين صالح وعائلته من ناحية وبين حميد وعائلته من ناحية أخرى. فمن الذي أفاد النظام وأضر بالثورة إذن؟
يدرك كثيرون أن حميد الأحمر من أكثر من خدموا النظام وأضروا بالثورة، لكنهم بتجاهلون ذلك مطالبين بالصمت عن اخطائه حتى لا نضر بالثورة. ويبدو لي أن هؤلاء لا ينطلقون من الخوف على الثورة لأن الأخطاء وليس مواجهتها ونقدها ما يلحق الأذى بالثورات. في الواقع، هم ينطلقون من التسليم بأن حميد الأحمر مواطن منزه عن النقد ويقف فوقه بقدرما يقف فوق الثورة والثوار. ولهذا، يعتبرون أن مهاجمته تشكل مهاجمة للثورة بالرغم من أنه لم يعلن رسميا انضمامه للثورة بعد!
حميد يبدو في نصفه الأول والده الشيخ الراحل وفي نصفه الآخر الرئيس صالح. وقد عكست إجابته على سؤال التقرير الأخير عما إذا كان يعتزم الترشح للرئاسة مستقبلا بالقول إنه سيوافق على الترشح في حال "قاموا بترشيحي" تقاطعه مع الإثنين في هذه النقطة. لكن عدم زيارته ساحة التغيير وأي من ساحات الثورة حتى الآن يقول لنا إنه يتجاوزهما معا في فوقيته الصارخة التي يمارسها بعنجهية إزاء الثورة والثوار. ففي إعتقادي، أن صالح لو كان في موقعه لرابط في ساحة التغيير ولما أبقى ساحة أخرى في عموم البلاد دون ان يزورها، وكذلك الحال بالنسبة الى والده. وأظن أنني لن أكون الوحيد في هذا الاعتقاد.
ولا تبدو عدم زيارة حميد الأحمر لساحة التغيير حتى الآن بسبب تفاديه أن يظن الناس بأنه يسعى الى السيطرة على الثورة وأن يصبح زعيم اليمن كما زعم، فهو في الواقع لم يوفر جهدا في سرقة هذه الثور وقد أفصح عن رغبته في تسنم هذه الزعامة في المقابلة نفسها. كما ليس لأنه يدرك أنه لن يلقى ترحيبا داخل الساحة كما قال راغافان لأن الساحة لم ترفض آخرين يكن لهم الناس رفضا كبيرا قد لا يقل عن رفضهم لحميد ولأن الأخير لا يبدي إكتراثا بشعبيته لدى الناس لاسيما وأن حضوره السياسي يقوم على أمر آخر غير الشعبية وحب الناس.
السبب الأقرب هو أنه يتعالى على الثورة والثوار ويعتبر نفسه فوقهما وفوق الشعب والوطن بدرجة لا تقل عن تعالي صالح واعتباره لنفسه. إنه يعتبر نفسه "مواطن سوبر" و"مرشح سوبر" وتقول لنا عدم زيارته للساحة حتى الآن أنه يعتبر نفسه "الثائر السوبر". ويبدو، بناءا على هذا، أنه ينتظر في قصره الفخم وصول حشود الشعب المطالبة له بالترشح للرئاسة على غرار صالح بعد إسقاط الأخير.
هذا لا يبدو مجرد افتراض. فليست لغة حميد الأحمر وحدها ما تكشف أنه يضع نفسه فوق الثورة والثوار ودولتــنا المستقبلية المرتقبة واليمن شعبا وبلدا بشكل عام، بل أعماله أيضا. وهذا ما سنحاول توضيحه في حلقة أخرى قادمة

Total time: 0.0492