تحت شعار العدالة لضحايا هجمات 11 سبتمبر وفي سنة انتخابية للكونغرس الأمريكي، أطاح المشرعون الأمريكيون فيتو الرئيس باراك أوباما على قانون “العدالة ضد رعاية الإرهاب” المعروف بـ “جاستا” والذي يتيح لذوي الضحايا ملاحقة السعودية في شأن أي دور مفترض في تلك الاعتداءات الإرهابية، إلا أن القانون يؤذن أيضاً بتعريض أمريكا وعملياتها العسكرية ومصالحها في الخارج لعواصف وخسائر قد تفوق بكثير أي مكاسب مفترضة له.
وكان مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي اي” جون برينان واضحاً في تحذيره من أن تشريعاً يسمح برفع دعاوى ضد الحكومة السعودية سيكون له “تداعيات خطيرة” على الأمن القومي الأمريكي. ونبه خصوصاً إلى أن النتيجة الأشد ضررا ستقع على مسؤولي الحكومة الأمريكية الذين يؤدون واجبهم في الخارج “نيابة عن بلدنا”، معتبراً أن مبدأ الحصانة السياسية يحمي المسؤولين الأمريكيين كل يوم وهو متأصل في المعاملة بالمثل، “وإذا لم نلتزم بهذا المعيار مع دول أخرى فإننا نضع مسؤولي بلدنا في خطر”.
سيادة الدول
عملياً، يعرض هذا القانون الذي يمس بمبدأ سيادة الدول، الولايات المتحدة ومواطنيها بدورهم للمحاكمة من قبل دول غربية.
فالدول التي لا تتمتع حالياً بمبدأ الحصانة هي تلك الراعية للإرهاب، وهي بحسب تصنيف الولايات المتحدة إيران والسودان وسوريا، لأنها متهمة بارتكاب أعمال إرهابية على الأراضي الأمريكية.
وكان الاتحاد الأوروبي حذر الكونغرس من أن اعتماد مثل هذا القانون سيدفع بلدان أخرى إلى تطبيق نفس المبدأ مع تفسير مبدأ سيادة الدول بشكل فضفاض.
تحذيرات
ومنذ فترة تتزايد التحذيرات من تبعات هذا القانون، ولعل آخرها كانت افتتاحية صحيفة نيويورك تايمز أمس التي حذرت من أخطار القانون الذي يعقد علاقات الولايات المتحدة مع السعودية وقد يعرض الحكومة والمواطنين والمؤسسات الاميركية لملاحقات قانونية في الخارج.
وقالت الصحيفة إن قانون جاستا انطلق من واقع أن 15 عنصراً من منفذي هجمات أيلول الـ 19 التابعين لتنظيم القاعدة كانوا سعوديين، إلا أنه بحسب لجنة التحقيقات الأمريكية المستقلة التي حققت في الهجمات لا دليل يثبت ضلوع الحكومة السعودية أو أي من مسؤوليها في تمويل الإرهاب.
واعتبرت الصحيفة أن من شأن هذا القانون، مضافاً إلى الاتفاق النووي الذي أبرم مع إيران والحرب في اليمن، أن يعقد العلاقات مع السعودية أكثر فأكثر، على الرغم من أن الرياض شريكة في محاربة الإرهاب.
ثمن باهظ
وبدوره كان موقع “بلومبرغ” الاقتصادي حاسماً في قوله إن ثمن إقرار “جاستا” سيكون باهظاً لأمريكا. وحذر خصوصاً من أنه إذا تم التخلي عن مبدأ الحصانة السياسية، يمكن أن تزدهر الدعاوى القضائية ضد الأمريكيين لا في دول معادية لأمريكا فحسب، على غرار إيران حيث اعتبرت واشنطن مرات عدة مذنبة في أحكام لا يمكن تطبيقها في ظل الحصانة السيادية، وإنما بالتأكيد في باكستان وسوريا واليمن ودول أخرى حيث أدت جهود مكافحة الإرهاب إلى قتل مدنيين من طريق الخطأ مرات عدة. وإلى المصاريف المالية، يمنح الأطراف في الدعاوى المدنية صلاحيات واسعة للحصول على معلومات، وربما السماح لهم بالوصول إلى أسرار الدولة.
جماعات متطرفة
وعن هذا الثمن، يؤكد مؤسس لجنة شؤون العلاقات العامة الأمريكية-السعودية “سابراك” سلمان الأنصاري أن مشروع القانون سيؤثر سلباً على الأمن القومي لواشنطن وسياستها للتجارة الحرة وعلاقاتها الدولية مع حلفائها، كما أنه “سيصب في مصلحة الجماعات المتطرفة التي تعيش دائماً على شيطنة أمكيا وتستفيد منها لتعبئة مجندين جدد”.
وعلى المستوى الاقتصادي، توقع تبعات أخرى بينها انسحاب استثمارات أجنبية نحو اقتصادات أقل التهاباً سياسياً، اضافة الى خسارة تدريجية لاستثمارات خاصة أيضاً.
وأضاف أن “الولايات المتحدة ستشهد مناخاً استثمارياً أقل جاذبية ، ما يحرمها من نوع من الاستثمارات الأساسية ليس لايجاد وظائف فحسب، وإنما أيضاً لاستمرار انتعاش الاقتصاد الأمريكي”.
إلى ذلك، نسب موقع “بلومبرغ” إلى مصادر أن إقرار المشروع قد يدفع السعودية إلى ارجاء سنداتها الدولية الأولى انطلاقاً من خوفها من إحجام بعض المستثمرين.
ونقل الموقع عن أربعة أشخاص أن السعودية تنوي بيع سندات بقيمة عشرة مليارات دولار على الأقل الشهر المقبل.
وفي الجانب العسكري، قال مسؤول ديموقراطي يشرف على الشؤون العسكرية أن مشروع القانون يضع المسؤولين الأمريكيين بخطر، باضعافه الحصانات الدولية التي تحميهم من الملاحقة في محاكم جنائية مدنية وعسكرية، ذلك أنه يجرد حكومات أجنبية حماية الحصانة السيادسة، إذا اعتُبرت مسؤولة عن إرهاب على الأرض الأمريكية، ما يدفع دولاً أخرى إلى ملاحقة مسؤولين أميركيين في الخارج.
الى ذلك، تنقل صحيفة “سعودي غازيتا” عن الخبير في العلاقات السعودية-الأمريكية أحمد الإبرهيم أن مشروع القانون “سيلحق ضرراً بأي علاقات استراتيجية للولايات المتحدة مع حلفائها الأقربين”. ونظراً إلى كونه سابقة، “سيحول حلفاء أساسيين جداً إلى أعداء”.
ويضيف الابرهيم أن مشروع القانون سيعطي صورة غير دقيقة عن الولايات المتحدة بأنها عدو للاسلام في نظر المنظمات الارهابية.
توقيت أخرق
وانتقد المحلل السابق لشؤون تمويل الارهاب في وزارة الخزانة الأمريكية جوناثان شانزر تصويت الكونغرس، قائلاً على حسابه على “تويتر” إن “توقيته أخرق للغاية في الوقت الذي يغرق البيت الابيض ايران، الراعي الأول للارهاب في العالم، بمنصات نقدية”.
بديل
ويبدو أن مشرعين ممن صوتوا على اسقاط الفيتو بدأوا يفكرون جدياً بالتبعات المحتملة. وكان 20 سناتوراً وقعوا رسالة قالوا فيها إنهم سيعودون الى البحث في القانون إذا أثار عواقب سلبية.
وأحد البدائل التي يناقشها المشرعون يتمثل في حصر الاجراءات بهجمات 11 سبتمبر، كطريقة لتلبية رغبات ذوي الضحايا من دون تعريض الولايات المتحدة لمشاكل قانونية وديبلوماسية مستمرة.
ولكن مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية جون ألترمان قال إن “إدراك العواقب الكاملة لمشروع القانون قد يستغرق وقتاً، وأنه قد يكون هناك وقت لتحسين القانون قبل ظهور بعض التبعات الأكثر ضرراً”.