الجزء الثاني من شهادة الإعلامية منى صفوان على (تحويث )عمران بالقوة ..
مازلنا في عمران، المدينة اليمنية، المثيرة للجدل، الترقب سيّد الموقف هنا، حيث أغلب المدراس تنتظر بدء الموسم الدراسي، لا أحد يعلم أن كانت الدراسة ستبدأ في موعدها أم لا!
الملفت للنظر، أن عمران برغم أنها مدينة متواضعة إلا أن المدارس الخاصة تنتشر فيها بكثافة، والسؤال: هذه المدارس الخاصة تتبع من؟ يقال إنها تتبع أشخاصاً معروفين من أهل عمران، كانت لهم مصالح هنا، إنها بلغة أُخرى مدارس من كان يسيطر على البلدة، السؤال الآن: هل سيُعاد فتحها، ويُسمح لها بالعمل تجارياً وقبله تعليما؟
معروف أن من يملك عقول الناس يملكهم، والصراع الأكبر هو صراع الأفكار، لذلك فإن من يملك المدارس وتعليم الأطفال يؤثر على كل بيت داخل عمران، وهُنا تسأل عن الدور الرقابي للدولة، وطبيعة المناهج، خاصة الدينية التي كانت تدرّس في هذه المدارس، دعونا نؤجِّل الحديث عن دور الدولة ومدارسها الحكومية بعد سماع حديث هذه الطفلة النازحة من عمران.
في مخيم النازحين في ذهبان، اقتربت مني طفلة صغيرة تسألني سؤالاً محدداً: هل سنعود الدراسة؟!
قلت لها: وما المانع من عودتكم؟ هل هناك من أبلغكم بأنكم لن تعودوا إلى الدرسة؟
قالت:"لكن ماذا سيعلموننا؟ هل سيفرضون علينا منهجهم "الديني" ونتعلم بطريقتهم؟ "كانت تقصد الحوثين بعد سيطرتهم على مدينتها".
بلهجتها المحلية، عبّرت عن خوف الكثير من أهالي عمران، الفارين منها، الخوف من فكرة تعميم الأفكار التي تعني الحوثيين، قالتها بطريقة بسيطة: "هل سنصبح تابعين لطائفتهم الدينية؟".
هذه الأفكار مُرعبة؟ قاتلةً: لكنها واقع تواجهه وجهاً لوجه، ووسط توجس كهذا عليك أن تصمت، وتسأل هل وصل الأمر إلى هذا الحد من الخوف؟ وتسأل ماذا كان يتعلم الأطفال في مدارس عمران؟ وأي منهج "ديني" كانوا يتبعون؟ وما هو سبب خوف الأهالي الذي يتسرب للأطفال من أن يتبعوا منهجاً آخر؟ يقودك كل هذا إلى السؤال الأم- السؤال الأعجوبة: "أين هي الدولة ومدارس الدولة ومناهج الدولة ورقابة الدولة على المدارس الخاصة؟". هل تركت عقول الناس للعبث والفوضى؟! سأترك كل هذه الأسئلة بلا إجابات؛ لأنها تحتاج إلى عُمر تنفقه، وليس إلى ست ساعات.
الساعة الثالثة في عمران تكاد تمر، في بلدة من المفترض أنها مكتظة بالسكان، لكنها شبه خاوية، مازالت تحتفي ببعض العبارات الدينية مطبوعة على جدرانها عبارات تذكر بالصلاة ويوم القيامة، كتبت بطريقة فيها الكثير من الترهيب الديني، عبارات تخص أصحاب التيار السلفي. الحوثيون أبقوا عليها دون طمسها.
السلفي والحوثي يختلفان سياسياً، لكنهم لا يختلفون كثيراً فيما يكتب على الجدران، والنظر للدين بوصفه أداة ترهيب فكري واجتماعي!
التجول في مدينة كعمران يجعلك تعتاد على الشعارات الحوثية، وبعد مرور الساعة الرابعة لا تبدوا أمراً منفراً، بل صارت معلماً من معالم المدينة، وقتها عليك أن تبدأ بالبحث عن شعارات مختلفة، تتوغل في شيء غير مألوف، لكن الأمر ليس سهلاً، فالمدينة نزعت عباءة دينية متطرّفة لتردي أخرى، فما هو الشيء غير المألوف الذي ستبحث عنه؟!
لقد كانت عمران دائماً ترفع السلاح، الآن تضع عليه ملصق الموت لأمريكا، عن ماذا ستبحث؟ لا توجد أي مظاهر مدنية، سنوقف إحدى السيارات، التي يستقلها مسلحون، لنسألهم عن سبب حملهم السلاح في مدينة انتهت من الحرب؟
نحن نحمل السلاح لنحمي أنفسنا من الإرهابين؟
نحن مسلحون دائماً؛ لأن هذه المدينة كان فيها فاسدون؟
وأضاف كبيرهم: "لولا الفاسدون لما حملنا السلاح وحاربنا..، لقد خربوا المدينة".
حسناً- ومن هم الفاسدون والإرهابيون؟ ولما تضطر أن تحمي نفسك منهم؟ لماذا لا تحميك الدولة؟
دولة!! ما بش دولة من زمان..، الدولة انهارت..
كان هذا شبيهاً بمشهد من فيلم مصري ساخص.. "من النهارده ما فيش حكومة، أنا الحكومة".
بعض الشباب في النقاط الحوثية، كانوا أكثر مُرونة في التعامل معنا، لكن الأكثر تأثيراً وأصحاب القرار كانوا حادي الطّباع، خاصة في تعاملهم مع امرأة. في المقابل كان هناك أشخاص من عمران حتى وإن كانوا منضمين لجماعة "أنصار الله" لكنهم أقل حدة بل أكثر مُرونة، لدرجة تشعر بأنهم فعلاً يحترمون العمل الذي تقوم به، دون مبالغة في احتفاء أو مبالغة في رفض، كانوا يتصرفون بشكل عادي جداً، لكن الشباب في النقطة كانت طباعهم مختلفة، وأكثر حدة، ولعلها الطبيعة العسكرية بشكل عام.
ويمكن ربط التأثير الأيديلوجي- الديني بالموضوع، فأهل المدينة من القبائل، كانوا أقلّ تعصباً، ربما لأنهم يتعاطفون مع الحوثيين كفكر سياسي، لكن الشباب المؤدلج كان يظهر تعصباً وتجهماً أكثر.
الأطفال أكثر من يتأثر بأي فكر ديني – سياسي، جديد، وهم أكثر المعبرين عنه بطريقة تلقائية.
في أطراف البلدة، بين البيوت العتيقة لمحنا جماعة من الأطفال يلعبون الكرة، بمجرد أن لمحوا الكاميرا تقافزوا إلينا وقالوا: لحظة ندي الصرخة "أي نطلق الصرخة". وهتفوا بصوت واحد "الموت لأمريكا الموت لأسرائيل، ...."، كانوا فخورين بما يقومون به، ويتحدثون بكثير من التعصب عن "أنصار الله". وكان طبيعياً أن تجد رجلاً متعصباً في عمران لـ"أنصار الله" -كما يسمونهم- أو شيخاً طاعناً في السن متمترساً خلف فكرة مُغلقة على "أنصار الله" فقط رافض للآخر، وغير معترف به، لكنك قد تشعر بالغيظ معصور بالأسى والدهشة وأنت ترى هذا التعصب والرفض والتمترس في هتفات الأطفال وكلامهم وصراخهم، وحتى طريقة تعاملهم مع الآخر.
الوقت اقترب من الظهيرة، إنه وقت شراء القات، كانت هذه المزراع مزاع "بُن"، واليوم كيس القات سيّد الموقف "اشتري منِّي القات بألفين ريال بس..".
ما هي موارد هذه المدينة، مدينة الاسمنت؟ ما هو مصير مصنع الاسمنت؟ إنه تابع للدولة، هل يتبع الدولة بالكامل؟
قيل إن الجبال، التي يستخرج منها الاسمنت، كانت تتبع متنفذين في عمران، وشيوخ كبار من عمران، ما هو مصير جبال الاسمنت إذاً؟!
يقول شاب: "طبعاً اصبح ملك الحوثين".
كيف تتأكد من هذا؟
هذه الجبال كانت لحميد الأحمر، هو كان يخرج الاسمنت، لكن الآن الوضع تغيّر.
يتداول الناس معلومات كثيرة، مع وضد، أنّ "من يسيطر على المدينة عسكرياً يسيطر على مواردها".
الناس العاديون يحمّلون كل طرف مسؤولية ما يحدث لحياتهم. ومع كل حوار قصير حول أي موضوع يرد جواب ذلك الشاب بأسلوب مُتهكم: "دولة، ما بش دولة من زمان، الدولة انهارت".
قبل أن تكمل جولتك، يمكن أن يترصدك أحد كبارات البلدة، سيطلب منك أن تحصل على موافقة الجهات ذات السيادة لتكمل عملك الفضولي في عمران، لكن من هي الجهات ذات السيادة؟
إن كان المندوب الإعلامي يعرفك، فالأمر أسهل بالنسبة لك، ولأننا كنا قد صادفنا المندوب الإعلامي في بداية جولتنا، فالأمر أسهل لنا، لأنه أصبحت لدينا واسطة في عمران، عموماً هذا الشيخ سيتصل شخصياً بالمندوب الإعلامي للمحافظة، بعد الاتصال بالمندوب، سيسمح لنا بمواصلة العمل والتصوير.
المندوب -كما أشرت سابقاً "في الجزء الأول"- هو مراسل قناة "المسيرة" التابعة للحوثيين، وهو مراسل صحفي شاب، لطيف ودمث، لكنه يقوم بمهمة "وزير إعلام عمران"، المراسل سيخبر الشيخ بأنه لا مشكلة من بقاء الصحفيين، لكنك لن تستطيع أن تحصل على إجابات شافية لكل ما تريد. هل هناك أشخاص لا يُمكنهم دخول عمران؟ البعض قال: "لو أنت من الأشخاص المحظورين سيتم التحفظ عليك". فعلياً لا يمكن الجزم بذلك، أو الاتكاء على كلام الناس وتأكيده، ولا حتى نفيه. كثير من الأسئلة تبقى معلّقة. السؤال المعلق، في هذه الأثناء وبينما الشيخ يجري اتصاله، مستشار المحافظة أو من عرف نفسه بهذه الصفة عند لقائنا به في بداية جولتنا: هل يتبع جهة حكومية من المفترض أنها محايدة؟ وإن كان يمثل الحكومة، لماذا طلب مني التنسيق مع مراسل قناة خاصة، تتبع جماعة بعينها؟
طبعاً في النقاط الأمنية يجري التأكد من الهوية، ومعرفة من دخل عمران، وكل زائرها مرصود، المبالغ فيه، إن هذه النقاط الحوثية تعلن عن نفسها بشكل صارخ، يستفز عندك فكرة السيادة الوطنية، فهذه نقطة حوثية، بالشعارت المرفوعة، التي لا تضع أي علامة تدل على تنسيق مع المؤسسات الأمنية الحكومية. وبعبارة أدق تعلن عن دولة الحوثيين المستقلة، وترفع لافتة كُتب عليها "الترتيبات الأمنية لكم وليست عليكم".. وبالجنب منها "الموت لأمريكا"، لتدلل أنها لافتة أمنية تتبع هذه الجماعة بعينها، أي أنهم وحدهم من يقومون بكل الترتيبات الأمنية! إذاً، هل تم تسليم عمران لجماعة الحوثي؟
خمس ساعات في عمران، نارداً ما ترى النساء في الشوراع، أو في السوق التجاري في عمران. في الأسواق تلحظ الرجال فقط، لا نساءَ في الأسواق المجارورة، النساء في البيوت يراقبن الوضع والأطفال بحذر. ربما لأن المدينة ما زالت شبه خالية، معظم من فيها هاجروا إلى صنعاء أو قُرى قريبة. ليلة النزوج أو أول يوم للحرب، كان الوضع كارثياً، لقد فرّ الناس مشياً على الأقدام، لم يتكفل أحد بإخلاء المدنيين، وكانت السيارات نادراً ما تصل إلى هناك, وإن وُجدت فهي بسعر مضاعف، عاش أهل هذه المنطقة لحظات عصيبة، خاصة من كانت بيوتهم بجانب موقع عسكري.
وفي آخر المطاف، دخلت الطائرات الحربية لدك المعسكر والأسلحة التي فيه، وهذا ما أرعب السكان، لكن بعد السيطرة على المدينة, والانتهاء من معركة عمران، بدت المدينة كما هي اليوم، لا شيء تغيّر فيها. كان فيها مسلحون ومعكسر أصبح فيها مسلحون فقط، لا خدمات في عمران يمكن أن تقول إنها استهدفت، أو مرافق صحية أو مراكز علمية، البنية التحتية لعمران مثلها مثل أي بلدة يمينة متواضعة، الفساد والإهمال هما العدو رقم واحد لأهالي عمران، ولذلك من السهل أن تكون هناك إذاً "مدينة مسلحة".
المستقبل غامض فعلاً، موظفو الدولة عادوا لمزاولة أعمالهم في الدوائر الحكومية في عمران، بعد إجازة العيد. العسكري على باب أحد البنوك المغلقة، يُوضّح أن الحياة الاقتصادية تحت المراقبة، لمدينة شبه متوقفة، أو نصف مغلقة. هذه البنوك معظمها خاص، تتبع بيوت ورجال أعمال معروفين في اليمن، لهم علاقة متوترة بالحوثيين.
المواقع التي دمّرت تحولت إلى مزار سياحي، يمكنك أن تأتي وتلتقط بعض الصورة التذكارية، أو تبحث بين الركام عن شيء يمكنك الاحتفاظ به، لقد كان الناس يتوافدون على أحد هذه المواقع التي قيل إنها كانت مركزاً كبيراً للإصلاح كان على الشارع الرئيسي.
رجل من إحدى القرى في أطراف عمران دلنا على هذا المبنى، ومبانٍ أخرى، ومن وصفه لما حدث اتضح أنه ضد الحوثيين، لكنه لا يقول ذلك صراحة، لكنه أكد أن أبناء عمومته أُصيبوا في معارك ضد الحوثين. ربّما كان شكل الرجل مألوفاً لدى خصومه، لذا بمجرد وصولنا إلى المكان الذي دلنا عليه نزل من السيارة وقال إن عليه العودة إلى قريته حالاً، ورفض أن نسجل معه أي حديث. وكان كمن لا يريد البقاء في مدينة عمران. هنا طل علينا الصيدلي، الذي خرج خصيصاً من صيدليته ليسأل: "أنتم تبع من؟! مشهد عادي جداً. لكن الصيدلي امتدح الأمن في المدينة بعد سيطرة "أنصار الله"، بينما أخذ جاره يتحدث عن أهمية تحرير القدس! وشرح فظائع ما يحدث في غزة، وكيف خانها العرب!ّ
في المقابل، التقينا رجلاً مصاباً من أهل المدينة، يشرح روع ما حدث له، وكيف أصيب وهو في منزله حين سقطت قذيفة على المنزل. الرجل الذي أصيب بأحد قدميه، كان يعرج ويشرح كيف أسعف إلى المستشفى من قبل الأهالي، حيث أُجريت له عمليه هناك. ثم التفت وقال: "محّد عالجني ولا عوضني". ولكنه ليس حالة خاصة، إنه حالة عامة. أطفال أصيبوا، وآخرون تعرضوا لمواقف أشد، وأيضا لم يهتم لهم أحد. كل هذا وما زال ذلك الرجل يكمل حديثه بحماس عن نصر غزة وتحرير القدس من دنس الصهاينة.
انتهت ست ساعات هنا.. كان هذا هو أغلب ما ظهر لنا خلالها. لعلّه ينقصه الكثير، ولعله هامشي وسطحي، لعله عادي، ولعله مفاجئ للبعض، لكنه ما ظهر، وما قفز من أسئلة، وما تفجر من دهشة.
حان الوقت لمغادرة عمران، عسكري النقطة هو آخر النقاط العابثة، نقطة ووراء نقطة، ذات الأسئلة والإجابات، وحتى الابتسامات، وبعدها الطريق سالك..، ومحايد ولا يعرف أحداً، وينسى كل ما خلفه، و.. "أهلاً بكم في صنعاء".