ما بعد (زلزال) اليمن.. خريطة لعالم متعدّد الأقطابأم حرب باردة جديدة؟
تحالف أُسمي دولياً شكلته الولايات المتحدة الأميركية لمحاربة اﻹرهاب، أعقبه مؤتمر باريسي تحت عنوان "الأمن والسلام"، ثم التئامالجمعية العامة للأمم المتحدة، وحراك دولي يتسارع، كمااﻷحداث...والغموض يكتنف المشهد العام، مع تلمّس إشارات تشي بإمكانية حدوث تبدّلات في القرارات والمواقف.
واشنطن برغم مواقفها المتعنّتة حيال طهران، فهي تُصدر بين الحين والآخر إشارات غير متعنّتة، على خلفية المحادثات بشأن الملف النووي، وأرسلت إشعاراً إلى سوريةبموعد تنفيذ ضربات "التحالف" ضدّ"داعش" على الأراضي السورية، وذلك تحت مرمى أنظار روسيا الاتحادية التي تراقب جيداً مسار عمليات التحالف لإبقائه في دائرة عدم الانفلات والانفلاش.
في موازاة ذلك، تبدو كلٌّ من موسكو وطهران ممسكتان جيداً بخيوط اللعبة، فما هي تلك الخيوط التي دفعت اﻷميركي والسعودي إلى التراجع عن مواقف اتخذاها بصلف وغرور؟
لا شك أنّ تبدّل المشهد اليمني بعد إحكام "انصار الله" سيطرتهم على العاصمة صنعاء، كان السبب الرئيس في دفع واشنطن والرياض الى تليين مواقفهما، فما حصل في اليمن، أكد أنّ إيران تملك من عناصر القوة والنفوذ ما يمكنها من تهديد المصالح الأميركية تهديداً مباشراً ومؤلماً، ويجعل المملكة السعودية تحت مرمى الحصار، خصوصاً إذا ما استكمل "انصار الله" اندفاعتهم إلى "باب المندب".
لم تكن واشنطن وحلفاؤها يتوقعون حصول انهيار سريع لنفوذهم في اليمن، فما حصل فاجأ السعودية، فخلال أيام قليلة، تهاوت التركيبة السلطوية التي صاغتها الرياض وواشنطن من خلال ما عرف بالمبادرة الخليجية في شباط2011، وما زاد الحنق الأميركي والسعودي، أنّ"أنصار الله" لم يجهزوا على السلطة، بل أبقوا عليها، وهذا ما دفع بالرياض وواشنطن إلى الاعتراف بالواقع والتسليم بنتائجه وضرورة السيرفي طريق الحلّ السياسي. خصوصاً بعدما أعلن "أنصار الله" بلسان أحد القياديين البارزين بأنهﻻ مبرّر للخوف السعودي وأنّما حصل جاء في سياق حراك لتحقيق مطالب اليمنيين، وأنّ الواقع الجديدﻻ يشكل خطراًعلى اﻷشقاء والجيران.
لكن، اذا أمعنّا النظر في المشهد اليمني المستجدّ، لا يمكن قراءته من زاوية حراك شعبي يستهدف مطالب شعبية وحسب، بل يجب قراءته من زاوية الأهداف الاستراتيجية المتصلة بالمحاور الدولية والاقليمية، إذ لم يسبق أنّفريقاً أو جماعة أو حراكاً شعبياًحقق انتصارات وتعفّف عن السلطة؟
الحدث اليمني ليس معزولاً عن سياق المعادلات الدولية والإقليمية التي ترسم، ونتائج هذا الحدث تعيد خلط الأوراق السياسية والأمنية، ولا شك أنّ السعودية جزعة، رغم أنّولي العهد السعودي حاول التخفيف من وطأة الجزع بإعلانه في مناسبة اليوم الوطني الـ84 للمملكة، انّ المملكة تنعم بااستقرار وسط منطقة تعجّ بالفوضى.
والسؤال كيف يمكن أن يُقرأ المستجدّ اليمني في ضوء تعفّف "أنصار الله" عن السلطة وانحيازهم إلى الحوار وإنتاج سلطة توافقية، وكيف ستتعامل السعودية مع هذا الواقع بعدما خسرت نفوذها؟
إنّ حرص "أنصار الله" على الحوار مع السلطة القائمة وإنجاز اتفاق الشراكة معها، له مدلولات تتخطّى الساحة اليمنية، ومن هذه المدلولات أنّإيران لها تأثير حاسم، وأنه بإرادة إيرانية أتيح للسعودية وكذلك لواشنطن أن يكونا جزءاً من حلقة الحوار واتفاق الشراكة، وربما يمتدّ هذا الحوار إلى الكثير من العناوين الدولية والإقليمية.
وهنا تبدو السعودية أمام امتحان صعب، فهي إما أن تكون ضمن معادلة الشراكة، وهذا ما يبدو راهناً، وأما أن تكون خارج حلقة الحوار والشراكة، وهذا يرتب عليها أعباء كبيرة وكبيرة جداً، فموقع اليمن له تأثير بالغ على المصالح السعودية والآمن السعودي في آن. عدا أنّ المملكة السعودية تواجه تحديات داخلية قد تشهد تطوراً متسارعاًإذا لم تسارع السعودية إلى احتواء هذه التحديات بسياسة وتوجهات مرنة، حتى لا تُفاجأ بنتائج غير محسوبة بالنسبة لها. هنا تجدر الإشارة إلى أنّ ما حصل في اليمن قد لا يخرج عن كونه رداً مباغتاً على الهجوم الإرهابي الذي تمثل باجتياح "داعش" لمناطق عراقية واسعة، وهو الاجتياح الذي يحمل بصمات أميركية ـ سعودية.
لكن ما حصل في اليمن يفوق بتأثيراته ما حصل في العراق. إذ أنّ اليمن يحاذي بحدوده مناطق سعودية قد تنتفض في لحظة ما، في وجه المملكة السعودية، كما أنّأيران أثبتت أنّ لها حضوراً يستطيع التحرك في اللحظات الحاسمة،وهو حضور قادر على تغيير قواعد اللعبة كما حصل في غزة وسورية ولبنان.
وهذا ما سيحقق مكاسب لإيران إنْ من خلال إعادة إحياء اللقاءات الإيرانية – السعودية، أو لجهة حدوث اختراقات على اتجاهات أخرى، منها الملف النووي وموقف واشنطن حيال ايران. ما أحدثه "زلزال اليمن"بدأ يظهر بوتيرة سريعة، فهناك اتصالاتأميركية – إيرانية، وسعودية – إيرانية،ويبدو أنّوزير خارجية السعودية سعود الفيصل أخذ بالنصح الأميركي بضرورة التقرّب من إيران ﻷنها الجهة الوحيدة والقادرة على إدارة تفاوض سريع للتوصل الى تفاهمات تحدّ من الخسائر الجسيمة بعد سقوط اليمن في حضن حلف المقاومة، وما سيرتّبه هذا الأمر منتداعيات على الداخل السعودي وعلى الوضع داخل دولة البحرين.
ويرى متابعون أنّ واشنطن فشلت في ابتزاز طهران بالملف النووي والعقوبات المفروضة عليها، وأنّ طهران أثبتت بأنها ﻻعبإقليمي دولي بامتياز تمسك بخيوط اللعبة بإحكام وغير مستعدة لتقديم ايّ تنازﻻت، فالخطر بعيد عنها وأقرب الى جيرانها وﻻ يؤثر على حلفائها في الدول العربية، خصوصاً في لبنان وفلسطين وسورية والعراق واليمن. كلّ ما تقدّم دفع باﻷميركي عبر وزير خارجيته جون كيري الى التراجع عن النظرية القائلة بأنه ﻻ حاجة للتحدث مع إيران في الحرب على "داعش"والتحدث عن ضرورة مشاركة إيران.
وقد حدّد إيران بااسم حين قال:"هناك دور لكلّ دولة في العالم تقريباً بما في ذلك إيران". وهناك حديث عن أنّ واشنطن وحلفاءها الأروربيين يمكن أن يتوصّلوا الى اتفاق حول الملف النووي اﻹيراني ورفع العقوبات الدولية المفروضة عليها، وذلك بموازاة العمل على إخراج يفضي إلى حلحلة موضوع استبعاد ايران وروسيا وضمناً سوريةمن لقاء جدة، وهو الاستبعاد الذي أفقد اللقاء كماله الدولي واﻹقليمي، وجعله لقاءً يخدم الإرهاب أكثر مما يحارب "داعش".
اما فيما يتعلق بروسيا، فموقفها كان حاسماً، فقد أعلنت وزارة الخارجية الروسية بأنّ روسيا ﻻ تنتظر من أحد دعوة للمشاركة في التحالف الدولي ضدّتنظم "داعش" اﻹرهابي، وروسيا تدعم بأشكال مختلفة الدول التي تحارب هذا التنظيم. كما أنّ الموقف الروسي لا يزال حاسماً برفض توجيه ضربات ﻷهداف على اﻷراضي السورية من دون موافقة الحكومة السورية.
وقد لقي موقف روسيا مؤازرة من الصين التي أعلنت للمرة اﻷولى منذ قيام التحالف اﻷميركي، رفضها الإرهاب بكلّأشكاله،وأشارت إلى ضرورة ان يكون موقف المجتمع الدولي واضحاً ودقيقاً من ناحية احترام سيادة الدول في اي تحرك ضدّ اﻹرهاب في إشارة ضمنية الى رفضها الاعتداء على سيادة الدولة السورية والقيام بأيّ تحرك من دون موافقتها، وهذا مواز للموقف الروسي، ما يدلّ الى دعم الصين ﻷيّ قرار روسي - إيراني. وحيال قوة وصلابة الموقف الروسي وكذلك الصيني والإيراني، فإنّ القادم من الأيام لا بدّ أن يحمل جديداً.
فروسيا ليست عاجزة عن القيام بحراك في الداخل الأوكراني يقوّض كلياً النفوذ الأميركي، وهناك حديث روسي ألماني عن تسوية خاصة بأوكرانيا. ويدرك الأميركي هذا الأمر جيداً، وهو لا يريد ان يخرج من المولد بلا حمص، ويتوجّس أن يصل الى مرحلة يجد نفسه خارج المعادلة الأوكرانية، كما حصل مع السعودية التي استفاقت وهي خارج المعادلة اليمنية. والسؤال هل هناك حراك بين الاقطاب والمحاور يجري بعيداًمن اﻷضواء سيرسم خريطة لعالم جديد متعدّد القطبية، أم يستعيد العالم مناخ حرب باردة تتسم بالسخونة والاحتدام؟