ثورة اليمن..نموذج جديد للثورات الشعبية
ما صنعته ثورة شعب تونس ثم ثورة شعب مصر كان بمثابة المشاعل المضيئة لطريق ربيع الثورات العربية، لتكسر الطاقةُ الكامنة في إرادة الشعوب أغلالَ الظلمات في حقبة الاستبداد الفاسد، مع انتقالها إلى حالة تفجّر ثورة تغيير جذري شامل. وما زال العطاء في المراحل التالية من الثورتين مرشّحا -رغم محاولات الإجهاض المنحرفة المستميتة- لإضاءة المزيد من المشاعل بعد إسقاط رأس نظام الاستبداد والفساد وفكفكة مفاصل تركيبته البنيوية.
وقد أنجز شعب اليمن الثائر هذه المرحلة أيضا، رغم اختلاف الظروف والمعطيات، ورغم غياب عنصر المفاجأة، وهذا ممّا يعطيه قيمة إضافية، مع وصوله إلى مرحلة حاسمة، غلب فيها الحديث عن "مجلس انتقالي"، ممّا يرمز إلى إبداع منتظر آخر، لا ينقل عن الثورتين الأوليين، بل هو المرشّح لأن يوقد مشاعل أخرى، لثورات أخرى، يمكن أن تمرّ بمرحلة مماثلة ومعطيات مشابهة.
إنّ إسقاط رأس النظام بثورة سلمية إنجاز تاريخي تكرّر في تونس ومصر بصورة واضحة، وتكرّر في اليمن في هذه الأثناء، وإن استمرّ إنكاره من خلال ما جرى نشره من "ضباب" مكثف حوله، وقد انتقل في هذه الأثناء إلى مرحلة "تفجير" الثورة وأهدافها، والإعداد الموجّه لذلك، كما شهد مؤشرات عديدة، تستدعي من الثوار وقادتهم أمرين: اليقظة.. وسرعة التصرف.
1- تكثيف الحديث عن "الإرهاب" بصورة ملحوظة.. وهو ما يستهدف تسويغ التخطيط المحتمل لتدخّل أجنبي خطير ومرفوض مسبقا جملة وتفصيلا..
2- تجديد طرح دعوات انفصالية غيّبتها الثورة الشعبية الشاملة.. وهو ما يوجد -قصدا أو جهلا- ذرائع خطيرة لتشويه حصيلة الثورة وتسويغ عمل مباشر مضاد (وليس مجرد وساطات!) بمشاركة إقليمية ودولية، وهو عمل مرفوض، وإن تذرع زورا بالحفاظ على "استقرار اليمن ووحدته".
3- إطالة الجدل حول شبح رئيس مصاب يعالج خارج اليمن، لا يراد الإقرار بأن أمره انتهى، ولا يمكن إثبات أي قابلية لديه لمواصلة ممارسة رئاسته الاستبدادية الفاسدة.. وهذا ما يستهدف شغل الثورة والشعب الثائر بأمور باتت جانبية، عن الخطوات الملحّة للانتقال بمسار الثورة إلى مرحلة التمهيد الانتقالي للبناء، بعد مرحلة إسقاط رأس النظام.
4- استمرار طرح شعارات من قبيل "الانتقال السلمي للسلطة" وكأنّ ما يجري من خلال الثورة الشعبية السلمية الواعية ليس "نقلا سلميا" للسلطة، أو كأنّ من لا يزال يردّد هذه العبارات باسم مبادرة خليجية أو حوارات داخلية أو ارتباطات بتدخلات "ديبلوماسية" غربية، يتعمّد الاستهزاء -بفظاظة بالغة- بمسار الثورة الشعبية اليمنية الكبرى على امتداد أربعة شهور ونيف، دون أن تسجّل خطوة تراجع واحدة، عن هدفها الأول الثابت ولا عن وسيلتها السلمية الثابتة أيضا.
لقد وضعت ثورة شعب اليمن أعداء اليمن الخارجيين، و"أشقاء" الحكم الاستبدادي فيه من الجيران الأقربين، وقسما كبيرا من الساسة المحليين من المعارضين التقليديين، في مأزق كبير، بل وضعوا هم أنفسهم فيه جنبا إلى جنب مع البنية الاستبدادية الفاسدة المهترئة، فأصبحوا في نفق واحد، لا يرغبون في الإقدام (وهم قادرون في الأصل) على الاعتراف بتغيير جذري ظهرت معالمه وبدأت أركانه تستقرّ على أرض الواقع المشهود، مع الاعتراف بمشروعية ثورة شعبية سلمية قطعت الطريق لتحقيق هدفها الأول، ولا يقدرون مهما فعلوا (وإن كانوا راغبين) على إعادة عقارب ساعة التاريخ إلى الخلف، لمَحْوِ صفحة مجيدة كُتبت بالدماء الزكية والتضحيات الجسيمة والصمود الأبيّ والصبر الطويل والمصابرة البطولية.
ويمكن لثورة شعب اليمن أن تضيف إبداعا آخر، ويجب أن تضيف إبداعا آخر في مسيرتها، قد تتجاوز به ما سبقها وتعطي من خلاله نموذجا لما يتبعها من الثورات العربية.
هذا بالذات ما يتوافق مع معطيات اللحظة الراهنة من عمر الثورة.. فهدف "إسقاط النظام" تحقق واقعيا وإن تأخر سقوط بقاياه.. إنّما أدرك الثوار أن شعب اليمن لا يعبر الآن "مرحلة إسقاط النظام" بل أصبح واقعيا في "مرحلة إيجاد النظام المطلوب"، أي النظام القائم على الشرعية الشعبية التي تتمثل في الشرعية الثورية.. وهو ما يعنيه طرح هدف "هذه المرحلة"، الواضح القاطع، تحت عنوان: تشكيل مجلس انتقالي.
لا ينبغي أن يطول أمد الأزمة التي تُصنع في وجه ثورة اليمن صنعا في نفق عرقلة مسيرتها مع العجز عن مواجهتها، وقد كان شباب الثورة وقادة مسيرتها في ساحات التحرير والتغيير قادرين في سائر الأسابيع الماضية على اندلاعها، أن يثبتوا في وقت واحد: حسن تقدير ما تم إنجازه، وتثبيته في إطار ما وصلت الثورة إليه، والوعي الرفيع بما يحاك لمواجهته وعرقلته، والقدرة الفائقة على صنع المبادرة لتجاوز تلك العقبات والشروع في مرحلة تالية.
وهذا ما ينبغي تواصله الآن، فثورة شعب اليمن -وإن أصبح انتصارها محتما- تقف في اتجاه الانتصار على مفترق طرق حاسم، حافل بالمخاطر المشار إليها، ولا يؤمَن طرف من الأطراف من خارج نطاقها أن يبذل محاولة "يائسة" للانتقال من أسلوب العرقلة مع "المساومة" إلى أسلوب "الضربة المضادة الغادرة" دون مساومة. ولئن كان اليقين كبيرا باستحالة نجاح هذا الأسلوب المحتمل أيضا، فلا ينبغي أن تفسح الثورة الشعبية السلمية الحضارية في اليمن المجال للنيل من شعبها الذي صنعها، وتكبيده ثمنا باهظا لانتصار ثورته المحتم.
1- لن يتشكل المجلس الانتقالي معبّرا عن الإرادة الشعبية ومرجعيتها المشروعة، إلا وفق ما تريده ثورة شعب اليمن نفسها، ولن يتشكل نتيجةً لمساومات ومشاورات ومفاوضات وحوارات وضغوط وردود أفعال، بمشاركة أيّ جهة من الجهات خارج نطاق الثورة.
2- من لم يصنع ثورة شعب اليمن داخل الحدود من القوى السياسية وغير السياسية، اليمنية، ذات التوجهات الحزبية وغيرها، لا يمكن أن "يصنع" هو المجلس الانتقالي، وإن كان الباب مفتوحا ليشارك فيه وفق معايير الثورة الشعبية وليس وفق معاييره التي اعتاد عليها في العقود الماضية.
3- من يعمل بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من خارج حدود اليمن، إقليميا أو دوليا، لعرقلة ثورة اليمن، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مرتكزات الاستبداد والفساد المهترئة والمنهارة، سيّان تحت أي عنوان "بريء الصياغة" وبأي ذريعة مزعومة، لا ينبغي أن يكون له موطئ قدم على الأرضية الشعبية المشتركة في صناعة مستقبل اليمن بما في ذلك "عتبة" المجلس الانتقالي في هذه المرحلة الحاسمة، باتجاه بناء المستقبل، ولا ينبغي بالتالي أن يجد في اليمن أذنا صاغية تسمع، أو "ممثلا" يحاور، باسم الثورة، تحت عنوان الانتساب إلى صفوفها، ولا من صفوف أخرى تعبّر داخل الحدود عمّن يقولون إنّهم يربطون أنفسهم بالثورة وبنتائجها ويتبنّون أهدافها ومطالبها.
4- ليس معيار الارتباط بالثورة هو ما يقول به طرف من الأطراف تجاه الثورة، وهو يعمل على إعطائها صبغة ما، ويحدّد لها مسارا ما، ويملي عليها وسيلة ما، إنّما هو ما تقول به الثورة نفسها، وما تحدده من أهداف ووسائل، ويبقى معيار مصداقية من يريد المضي معها ولم يكن له باعٌ في صنعها، هو معيار ربط نفسه بها وليس ربطها بنفسه.
5- لقد أخذ المجلس الانتقالي مع مضيّ حوالي أسبوعين -لحظة كتابة هذه السطور- موضعه مفتاحاً لمتابعة الطريق، وكل تأخير لتنفيذ هذه الخطوة، يمكن أن يعرقل المسار ويطيل الطريق، ولا يوجد ما يسوّغه، فالفعاليات القيادية في الثورة، طرحته هدفا، وهي المخوّلة بتنفيذه من تلقاء نفسها عبر المبادرة الذاتية للتنفيذ، وهي المخوّلة بقبول طلب من يريد المشاركة فيه -بشروطها- ورفض من لا يلتزم بتلك الشروط.
إن بعض الثورات العربية الجارية (وسيسري ذلك على القادم منها على الأرجح) يواجه "إشكالية" حقيقية أو مصطنعة بشأن صياغة النقلة الحاسمة بين مرحلتي إسقاط النظام وتثبيت أرضية مشتركة راسخة لنظام قادم.. وهنا بالذات -أي من خلال المبادرة الثوروية الذاتية لتشكيل المجلس الانتقالي- يمكن أن تعطي الثورة الشعبية في اليمن نموذجا تطبيقيا يُحتذى، انطلاقا ممّا تميّزت به من إبداعات متوالية، وفي مقدمة معطيات ذلك، الوعي بمتطلبات اللحظة الآنية، والإمساك بزمام المبادرة، وهذا ما شهدنا كيف يعبّر عن نفسه في اليمن، تحت مختلف العناوين المطروحة في مسار الثورة، يوما بعد يوم، وأسبوعا بعد أسبوع، وشهرا بعد شهر، ولا ريب في أنّنا سنشهده يتكرر الآن، على محور العنوان المعبّر عن المرحلة الحاضرة: تشكيل مجلس انتقالي.
قد لا يستطيع من يتابع أهله وأحبته الثائرين من خارج أرض الثورة في اليمن -وإن حرص على عدم الانقطاع عنهم لحظة واحدة، من قبل الثورة وخلالها- أن يقدّر بما يكفي ما يعنيه ذلك الصبر المديد مقابل ما يقول به المؤرّخون وعلماء الاجتماع وسواهم من المتخصصين عن الثورات.. أنّ الغضب هو في مقدمة ما يملي أحداثها ويرسم خطواتها، وأنّ الثائرين معذورون "عادة" فيما قد يرتكبونه من تجاوزات وأخطاء، وأنّ الأصل في مسارهم هو القضاء المبرم على من يعترض طريقهم.. إنّما نشهد في اليمن -من بعد ما شهدناه من إبداع في تونس ومصر- ثورة تقدم مزيدا من الإبداع، على أكثر من صعيد، ومن ذلك على سبيل المثال دون الحصر:
1- هي ثورة سلمية أيضا.. إنّما يكتسب هذا الوصف بُعدا تاريخيا إضافيا عميق المغزى إزاء ما يتوافر من سلاح وإزاء ما وقع من استفزازات لتنزلق الجماهير الشعبية الثائرة إلى استخدامه.. دون أن تفعل ذلك.
2- هي ثورة شاملة للشعب بأسره.. في بلدٍ تحتلّ التعددية فيه بمختلف تجلّياتها مكانة محورية، طالما استغلّها الحكم الاستبدادي الفاسد لإثارة الفتن وتحقيق مآربه، وإذا بالثورة تعبّر عن صورة تاريخية غير مسبوقة لوحدة الشعب اليمني من أقصاه إلى أقصاه، على اختلاف المواقع والاتجاهات والمطالب والاحتياجات، ومن يطرح دعوات انفصالية مجدّدا يفصل نفسه عن اليمن الموحد، ولا يفصل بين شعب اليمن في الشمال والجنوب.
3- هي ثورة صنعت مفهوما جديدا للوعي الشعبي، وقلبت ما سبق ترويجه من صيغ منحازة، تحتكر "الوعي" لصالح معايير أخرى، تحصيلا للعلم عبر الدراسة، والثقافة عبر المعرفة، والمواقع بغض النظر عن سبل الوصول إليها، ولا يُستهان بشيء من ذلك، إنّما أعطت الثورة الشعبية في اليمن نماذج تؤكّد أن جميع ذلك يمكن أن يتوافر ولا يتوافر الوعي، وقد يُفتقد بعضه أو كلّه ويتوافر الوعي، بأجلى صوره، وبتأثير كبير على واقع التصرفات والممارسات، بما يشمل مختلف الفئات العمرية والاجتماعية والمعيشية.
ويمكن ذكر المزيد من الجوانب التي تميّزت بها ثورة الشعب في اليمن، وقد أخذت مكانها بين مجموعة الثورات الشعبية العربية، لتؤكّد مع بعضها بعضا، أنّها ليست مجرّد أحداث "قطرية" تغيّر واقعا قائما في كل قطر على حدة، بل هي مع بعضها بعضا حدث تاريخي كبير، بعيد المدى، عميق المغزى، يأخذ شعبُ اليمن فيه نصيبا لا ريب في حجمه وأهميته، وهو يفتح -مع الشعوب الثائرة الأخرى- أبواب حقبة حضارية جديدة، ويوجد في مسيرة التاريخ البشري معالم تحوّل شامل وكبير، سيترك بصماته المباشرة على اتجاه هذه المسيرة لزمن طويل، وسيشغل المؤرخين والباحثين في دراسة أبعاده، لاستنباط معايير جديدة في الحياة البشرية، ومضامين جديدة لمفاهيم كانت قد اكتسبت معالمها فبدت ثابتة لا تقبل التغيير، من أحداث "ما قبل الربيع العربي"، ولن تبقى من بعده على ما كانت عليه.