الطريق المسدود
محمد السهلي
بيان «الرباعية» الذي أمل البعض في إعادة إصداره، تحول هو بحد ذاته إلى عنوان لمفاوضات اشتغلت بها واشنطن في محاولة لإقناع بنيامين نتنياهو بقبوله.
وفيما حشر الفريق الفلسطيني نفسه في مقعد الانتظار، كان رئيس الحكومة الإسرائيلية قد رفض مسبقا اعتماد البيان مرجعية للمفاوضات، واعتبر ما كان قد جاء فيه عند صدوره للمرة الأولى شروطا مسبقة ترفضها تل أبيب بشكل قاطع.
ووفقا للمعادلات التي تكرست عند الاصطدام بالتعنت الإسرائيلي، بدأت الجهود الدولية تبحث عن حل وسط يجمع ما بين رغبة (قرار) الولايات المتحدة بإطلاق المفاوضات المباشرة وما بين الحرص على عدم استفزاز الجانب الإسرائيلي والاكتفاء بإصدار بيان يدعو إلى إطلاق المفاوضات والإشارة إلى عناوينها وشكل إدارتها بعيدا عن كل ما تعتبره تل أبيب شروطا مسبقة.
فإذا كانت «الإرادة الدولية» قد نزلت عند لاءات نتنياهو بما يخص البيان كمفتاح للمفاوضات.. فماذا سيكون مصير القضايا الرئيسية عند نقاشها والخلاف حولها في حلبة التفاوض؟!
الصورة التي تبلورت راهنا لجهود التسوية السياسية تعبِّر إلى حد كبير عن محصلة مواقف الأطراف ذات الصلة، ويمكن اعتبار مسار التطورات التي أدت إلى تشكيل هذه الصورة بمثابة مؤشر حقيقي عما يمكن أن تصل إليه الأمور في حال جرى الانسياق إلى ما لا نهاية مع الدعوة الأميركية لبدء المفاوضات المباشرة مع الجانب الإسرائيلي.
فقد أكدت الأحداث أن الموقف الوحيد من بين مواقف الأطراف الأخرى الذي لم يتعرض للتآكل أو التراجع هو الموقف الإسرائيلي منذ أن جرى إعلانه في جامعة بار إيلان (14/6/2009) كرد مباشر على ما ورد في خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما في القاهرة (4/6/2009) وفيه شدد نتنياهو على حيوية البناء الاستيطاني وعدم التراجع عنه أو تجميده لأي سبب وأمام أية دعوة مهما كان مصدرها.
ونجح نتنياهو في أن يقدم موقف ائتلافه الحاكم أمام الإدارة الأميركية وأركان المجتمع الدولي باعتباره قيدا يمنعه من التساوق مع الطلبات الأميركية بشأن الاستيطان حتى بالحدود الدنيا لتجميده وحافظ وحكومته على هذا الموقف في ظل اشتداد التجاذبات مع واشنطن حول هذا الموضوع، مراهنا (وقد نجح رهانه) على تحويل الضغط باتجاه الجانب الفلسطيني ربطا بتجارب تفاوضية سابقة ـ مع أنه حاول في بعض المحطات أن يبدو متعاونا مع إدارة أوباما. وأستطاع أن ينشئ ميادين اشتباك فرعية من خلال إصدار قوانين عنصرية بحق الفلسطينيين وتصعيد حملة هدم البيوت في القدس الشرقية بهدف تحويل المطالب الفلسطينية باتجاه المستجدات.
وقبيل انطلاق المفاوضات غير المباشرة استطاع إدخال ملف الأمن إلى جانب موضوعة الحدود على جدول أعمالها وبعد ذلك استنكف عمليا عن الانخراط في هذه المفاوضات مكتفيا بالاستماع إلى الرسائل التي كان ينقلها المبعوث ميتشل عن الجانب الفلسطيني دون أن يكلف نفسه عناء الرد على أية اقتراحات. وبهذه الطريقة، ومع مرور الوقت الحرج وضع الإدارة الأميركية أمام اختصار مرحلة المفاوضات غير المباشرة لأسباب أميركية خاصة وبدء الضغط على الجانب الفلسطيني من أجل الدخول في المفاوضات المباشرة.
وعلى اعتبار أن الجانب الفلسطيني قد تراجع عن تمسكه بمطالبه الخاصة بالتجميد الكامل والشامل للاستيطان وتحديد مرجعية المفاوضات، فإن نتنياهو وجد في ذلك تشجيعا له للخوض أكثر في مواقفه المتعنتة ورأى في القبول «الفلسطيني» برسائل أوباما كمرجعية بديلة للمفاوضات مدخلا لكي يسعى لإنشاء معادلة يضع فيها العلاقات الإسرائيلية ـ الأميركية ومساحات تقاطعها الكبيرة مقابل الاستناد الفلسطيني الواهي إلى وعود أوباما الذي تراجع عنها بشكل معلن ووجه إنذارا سافرا إلى الفريق الفلسطيني المفاوض للالتحاق من غير إبطاء في المفاوضات المباشرة. وينبغي الإشارة هنا إلى أن نتنياهو وائتلافه الحاكم بلورا إستراتيجية واضحة تجاه الأهداف التي يريدونها من التسوية السياسية ويقع الاستيطان ومستقبله بالتصور الإسرائيلي في قلب هذه الإستراتيجية على أساس إعادة تجميع الاستيطان في الضفة الفلسطينية بما يكفل ضم الكتل الاستيطانية الكبرى ومحيطها الجغرافي الحيوي، وتلحظ هذه الإستراتيجية أهمية الاحتفاظ بغور الأردن ومناطق أخرى في الضفة تحت دعوى المصلحة الأمنية الإسرائيلية إضافة إلى رفض تقسيم القدس واعتمادها كمدينة موحدة عاصمة أبدية لإسرائيل. وهكذا لا يبقى معنى سياسيا للحديث الفلسطيني عن أولوية مناقشة ملف الحدود في المفاوضات بعد أن تم إغلاق الطريق أمام قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة.
وعلى اعتبار أن القرار 194 الخاص بقضية اللاجئين الفلسطينيين قد شطب أساسا من بيانات الرباعية ومواقفها فإن نتنياهو وائتلافه الحاكم لا يجد نفسه معنيا بخوض معركة مبكرة معتمدا على الإشارات التي تصله من أوساط فلسطينية وعربية تدل على استعداد لديهم للقفز عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها خلال النكبة ويأمل بأن لا يقتصر خوض المعركة ضد حق عودتهم على الجبهة الإسرائيلية.
على المقلب الآخر، لم يصمد موقف الجانب الفلسطيني طويلا تجاه الضغوط منذ مراحلها الأولى وقايض تحقيق مطالبه بوعود أميركية لفظية بدلا من التركيز على توفير غطاء فلسطيني يؤمنه اعتماد إستراتيجية وطنية تفاوضية تكفل تقدم المفاوضات على سكة تجسيد الحقوق الفلسطينية. وخطا هروبا باتجاه لجنة المتابعة العربية باحثا عن غطاء بديل متناسيا أن اللجنة نفسها قد صبت جهودها السياسية في سياق الضغوط الأميركية.
لقد مثل غياب الرؤية الوطنية الموحدة لعناوين التسوية السياسية أبرز نقاط الضعف لدى الجانب الفلسطيني وقد أدى ذلك بانعكاساته الأولى إلى تخبط الفريق المفاوض وتردده في كثير من المحطات وخاصة أنه ومن يمثل قد حصر آفاق العمل الوطني بمائدة التفاوض متخليا عن كل الأسباب التي يمكن أن تدعمه في هذه المفاوضات وفي مقدمتها إعادة الاعتبار للبرنامج الوطني الفلسطيني بعناوينه المتكاملة وخاصة المقاومة بكافة أشكالها بما يخدم هذا البرنامج.
والآن، ومع انكشاف زيف الوعود الأميركية واستمرار اللجنة الرباعية الدولية في الارتهان بمواقف واشنطن وفي ظل عدم قدرة (وإرادة) لجنة المتابعة العربية على اتخاذ موقف جدي وعملي داعم للحقوق الفلسطينية.. أمام كل ذلك باتت المفاوضات تشكل أكثر من أي وقت مضى خطرا كبيرا على مستقبل القضية الفلسطينية في حال تم الانسياق إلى ما لا نهاية وراء الكلام السياسي المجاني الذي يأتي على شكل وعود وتطمينات متعددة الجهات.
كل ما سبق يؤكد أن المفاوضات كما نريدها باتت في طريق مسدود. وهناك الكثير من المهام الوطنية التي تستدعي الالتفات إليها وفي مقدمتها كل ما يتعلق بإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة وإعادة الاعتبار للحوار الوطني الشامل الذي من شأنه وحده أن يضع النقاط على الحروف بما يتصل بنقاط الاختلاف كما مساحات الاتفاق حول المشروع الوطني الفلسطيني التحرري وقضايا إدارة الشأن العام بعيدا عن الخندقة والمحاصصة والعقلية الانقسامية والصراع على السلطة وهي البوابات التي فتحت على ويلات الاقتتال الدموي وكرست الانقسام وتعبيراته المقيتة وأضعفت قدرة الفلسطينيين على مواجهة ما يتهدد قضيتهم من أخطار محدقة.
لقد أغلق بنيامين نتنياهو طريق المفاوضات على طريقته، ووضعتها الإدارة الأميركية أحد العناوين السياسية في خدمة ملفاتها الخارجية والداخلية، وواصلت لجنة المتابعة العربية عجزها عن الفعل باستثناء إشعال الضوء الأخضر أمام المفاوض الفلسطيني كي يشق طريقه باتجاه المفاوضات.. وهذا يعني بداهة أن ندرك نحن أنه آن الأوان لوقف هذا المسلسل وعدم انتظار حلقته الأخيرة التي قد تحمل معها.. نهايتنا. فهل نفعل؟