أخبار الساعة » فنون وثقافة » ابداعات ادبية

منهج المناظرة في التراث وأدبيّات الحوار د. محمود الربداوي

- ادريس علوش

منهج المناظرة في التراث وأدبيّات الحوار

د. محمود الربداوي

رئيس تحرير مجلة التراث العربي*

(مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب- دمشق)

كثيرة هي المناظرات والمحاورات التي يشاهدها المرء على شاشات الفضائيات العالمية والإقليمية، يستفيد منها المخططون للبرامج (التلفزيونية) لملء فراغٍ في ساحة الـ (24) ساعة التي يوالون البث فيها، ويستفيد منها المشاهد الذي يملك من الفراغ ما يملؤه بمتابعة مثل هذه المناظرات التي تشبع ميوله ورغباته الثقافية والفكرية.‏

والذين لهم ولع بنوعٍ معين من المناظرات يستطيعون متابعتها بشكل دوري في كل أسبوع، أو يتابعونها على شكل ندوات ثنائية أو ثلاثية أو أكثر. والحقيقة أن مثل هذه المناظرات تؤدي رسالة اجتماعية كبيرة، ذلك لأنها عُدت وسيلةً من وسائل تثقيف الجماهير، لما يصرِّح به المتناظران أو المتحاورون من أفكار وحقائق كانت غائبة عن المشاهد قبل البوح بها (على الهواء) كما يقولون.‏

ولم يفت المؤلفين أن يؤلفوا في هذه الظاهرة، ظاهرة المناظرات. فألفت كتُب، ونُشرت مجلات، وعُقدت ندوات، وتابعت الصحافة حركة هذه المناظرات بالنقد تارة وبالتحليل تارة أخرى.‏

وممارسة المناظرات والكتابة عنها قديمة قدم حب الإنسان لعرض أفكاره والدفاع عنها، فقد عُرفت المناظرة أو إن شئت فقل المجادلة في الفلسفة اليونانية، وترجمها العرب باسم (طوبيقا) وقالوا عنها إنها إحدى الصناعات الخمس المهمة التي ينقسم إليها القياس المنطقي، وقالوا: إنه يتوقف فهم هذه الصناعة على مقدمات ومبادئ أساسية لا غنى عنها لمن يروم الدفاع عما يراه جديراً بالدفاع عنه لشتى الأغراض.‏

وعرف العرب في تاريخهم القديم صوراً من المناظرات المشهورة كالمناظرة المنسوبة للنعمان بن المنذر وكسرى أنوشروان في شأن العرب، ومناظرة يوحنا بن إسرائيل الذمي مع علماء المذاهب الأربعة في بغداد، ومناظرة أصحاب أبي تمام وأصحاب البحتري التي أثبتها الآمدي في مطلع كتابه (الموازنة بين الطائييْن)، والمناظرة بين أبي سعيد السيرافي ومتى بن يونس، وغيرها كثيرة جاءت مثبوتة في كتب الأدب والفلسفة. ولكن أليس من المفيد أن نعرف ما هي المناظرة؟ إن أوجز تعريف للمناظرة هو التعريف الذي جاء به (الكفوي) في الكليات، ومن المفيد أن نورده ونورد الفروق بينه وبين المصطلحات المتفرعة عن مفهوم المناظرة. قال الكفوي: "المناظرة هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب. والمجادَلة: هي المنازعة في المسألة العلمية لإلزام الخصم سواء كان كلامه في نفسه فاسداً أم لا. وإذا علم بفساد كلامه، وصحة كلام خصمه فنازعه فهي المكابرة، ومع عدم العلم بكلامه وكلام صاحبه فنازعه فهي المعاندة، وأمّا المغالطة: فهي قياسٌ مركّب من مقدمات شبيهة بالحق، ويسمى سفسطة، أو شبيهة بالمقدمات المشهورة، ويسمى مشاغبة، وأما المناقضة ـ في علم الجدل ـ فهي منع مقدمة معينة من الدليل إما قبل تمامه وإما بعده. والمعارضة هي في اللغة عبارة عن المقابلة على سبيل الممانعة والمدافعة."(1)‏

وليت شعري، أي نوع من أنواع المناظرة المذكورة هذا الذي يقوم به المتناظرون على الشاشات الفضائية في زمننا هذا؟ ولكن أَعَرَفَ هؤلاء المتناظرون أم لم يعرفوا موقعهم من هذه الأنواع فذلك لا يغيِّر من طبيعتهم، ولا من مجرى حوارهم شيئاً، ولكنْ ماذا علينا لو أطلعنا زملاءنا المتناظرين على ما كان يسميه القدماء (أدبيات الحوار) أو أدب الجدل، وقد أورد ابن وهب الكاتب في كتابه (البرهان) أكثر من ثلاثين مبدأً يقدمها لمن يجد نفسه مهيَّأً لأن يشارك في مؤتمر أو ندوة أو حلقة من حلقات (التلفاز)، نلخص هذه المبادئ التي يقول فيها:‏

1ـ على المرء ألا يفرط في الإعجاب برأيه، وما تسوّل لـه نفسه، حتى يُفضي بذلك إلى نصحائه، ويلقيه إلى أعدائه فيصدقونه عن عيوبه، ويجادلونه. ويقيمون الحجة عليه فيعرف مقدار ما في يده إذا خولف فيه.‏

2ـ أن يكون منصفاً غير مكابر؛ لأنه إنما يطلب الإنصاف من خصمه، ويقصده بقوله وحجته. فإذا طلب الإنصاف بغير الإنصاف فقد طلب الشيء بضده.‏

3ـ أن يتجنب الضجر وقلة الصبر، لأن عمدة الأمر في استخراج الغوامض، وإثارة المعاني، وعماد كل ذلك الصبر على التأمل والتفكر.‏

4ـ وأن يحلم عما يسمع من الأذى والنبز.‏

5ـ أن يتحرز من مغالطات المخالفين، ومشبهات المموهين.‏

6ـ وألا يشغب إذا شاغبه خصمه، ولا يرد عليه إذا أربى في كلامه، بل يستعمل الهدوء والوقار، ويقصد مع ذلك، لوضع الحجة في موضعها.‏

7ـ وألا يستصغر خصمه، ولا يتهاون به، وإن كان الخصم صغير المحلّ في الجدال، فقد يجوز أن يقع لمن لا يؤبه به لـه الخاطر الذي لا يقع لمن هو فوقه في الصناعة.‏

8ـ وأن يصرف همته إلى حفظ النكت التي في كلام خصمه مما يبني منها مقدماته ويُنتج منها نتائجه، ويصحح ذلك في نفسه، ولا يشغل قلبه بتحفظ جميع كلام خصمه، فإنه متى اشتغل بذلك أضاع ما هو أحوج إليه منه.‏

9ـ وألا يجيب قبل فراغ السائل من سؤاله، ولا يبادر بالجواب قبل تدبره، واستعمال الروية فيه.‏

10ـ وأن يعتزل الهوى فيما يريد إصابة الحق فيه، فإن الله، عز وجل، يقول: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).‏

11ـ وألا يجادل ويبحث في الأوقات التي يتغير فيها مزاجه ويخرج عن الاعتدال؛ لأن المزاج إذا زاد على حد الاعتدال في الحرارة كان معه العجلة، وقلة التوقف، وعدم الصبر، وسرعة الضجر، وإذا زاد في البرودة على حال الاعتدال أَوْرَث السهو والبلادة، وقلة الفطنة، وإبطاء الفهم, وقد قال جالينوس: إن مزاج النفس تابع لمزاج البدن.‏

12ـ وألا يستعمل اللجاج والمَحْك، فإن العصبية تغلب على مستعملها فتبعده عن الحق وتصده عنه.‏

13ـ وأن يتجنب العجلة، ويأخذ بالتثبت، فإن مع العملِ الزلل.‏

وما دمنا بصدد الحديث عن تجارب التراثيين في المناظرات والمحاورات ورؤاهم في ذلك، فجدير بنا أن نستفيد من المعطيات المعاصرة في ظاهرة (الحوار) وهي من المصطلحات المتداوَلة حالياً، ففي هذا المجال نلفت النظر إلى (مركز الحوار العربي) الذي أسس سنة 1994، وكانت سبقته ودعت إليه مجلة (الحوار) التي نشرت في افتتاحيتها سنة 1992، بشكل نداء للمفكرين العرب كان عنوانها: "الأمة التي لا يفكر لها أبناؤها تنقاد لما يفكّر لها الغرباء." وينتمي المشاركون في ندوات (مركز الحوار) إلى أوطان عربية متعددة، وإلى اتجاهات فكرية وسياسية مختلفة، وإلى تنوّع أيضاً في الطوائف والمهن والأعمار والمستويات العلمية. لكن يشترك الجميع في الحرص على الهوية الثقافية العربية.  ولمركز الحوار الآن ندوات دورية أسبوعية في واشنطن، وله مطبوعات دورية باللغتين العربية والإنكليزية، وللمركز موقع على (الأنترنت) فيه توثيق لكل تجربة الحوار، وبعض مواد المجلة، حبذا لو استفدنا من مخزوننا التراثي القديم وأضفنا إليه المستجدات الحديثة، لعقدنا الصلة بين خيرَيْ الطريف والتليد.‏

---------------------------------------

(1)   الكليات للكفوي، 4/ 263-265

·         (مقال في مجلة التراث العربي- مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب- دمشق العدد 91 - السنة الثالثة والعشرون - أيلول "سبتمبر" 2003 - رجب 1424)

 

المصدر : *(مقال منشور في صحيفة "الرياض" – 2 آذار/

Total time: 0.0532