عاش اليمنيون عشية يوم 22من مايو 1990م أفراحا تجسدت بالعرس الديمقراطي وتلاحمت بالجهود المتواصلة لإعلان الوحدة اليمنية بين شمال اليمن وجنوبه كان ذلك الإعلان بمثابة البيان التاريخي المنبثق عن لوحة فنية رسمت الخريطة اليمنية بريشة الفنان المبدع الذي خلد تلك اللوحة في معرض التاريخ اليمني وكان ذلك الفنان هو الشعب اليمني بشماله وجنوبه وكل مكوناته " الاجتماعية ولم يكن الرئيسان الموقعان على وثيقة الوحدة سوى وكيلين عن الشعب اليمني خول لهما التمثيل المباشر للتوقيع على وثيقة الوحدة وليس لهما بعد ذلك من صلاحية تكفل لهما فك الارتباط والسعي لتخريب الوطن ولاسيما بعد خروجهما من المشهد السياسي العام فالمفتي في تقرير مصير الوحدة اليمنية هو الشعب اليمني نفسه فلم يعد للرئيسين السابقين شرعية ولا وصاية على الوحدة اليمنية وكل المحاولات التي يقوما بها ما هي إلا الحركة الأخيرة للجسد المنتحر على مشارف الغروب السياسي .
نحن أمة واحدة تجمعنا عوامل " ديموغرافية " مشتركة ويجمعنا نسب واحد وننصهر في بيئة يمنية ذات تقاليد تاريخية عريقة ليس هناك من فارق كبير في مواقيت الصلاة ولا اختلاف معقد في اللغة ولا طوائف دينية متناحرة ولا أثنية تبنى على ثقافة متعددة ولا قوميات تتكئ على أعراق وأجناس مختلفة كل الذي يعيبنا وجود الأنانية المفرطة والجشع القاتل في بعض من خوله الشعب اليمني لحكمه لأنه في حال ما خرج من المشهد السياسي تحالف مع أعداء الشعب اليمني ليخل بالأمن والاستقرار وبوحدة اليمن واجتماعه بتنفيذ أجندة خارجية مأجورة تسعى بحركة راديكالية لإفساد الروابط المتينة وقطع الأواصر الثابتة بالدعوة إلى فك الارتباط وفصل الجنوب عن الشمال تحت بمبررات واهنة تفتقر إلى العقل والمنطق .
فتلك الجرأة من الحراك المسلح ليست سوى باعث حثيث لإشعال فتيل الفتن وقاتل مأجور يسعى لسفك دماء الأبرياء ومخرب مجنون لإثارة الفوضى وقاطع طريق للإخلال بالأمن والاستقرار فكل عناصر التخريب الرباعية تعبث تحت غطاء سياسي يشكل قبة الموت الغائمة ويحفر متاهات الوطن المضللة ويزرع الأسلاك الشائكة أمام أي خطوة إيجابية يكون من شأنها الخروج بالوطن من نسيج بيت العنكبوت فالتناغم المريض بين القوى الإرهابية والعنصرية والانفصالية وفلول النظام الساقط قد أعطى حقولا دلالية تتجاذب في فضاء العقول بالدهشة والاستغراب وتثير مليارات الأسئلة عن بؤر الالتقاء بين هذه المكونات الرباعية على اختلاف أيدلوجياتها كيف اجتمعت في هذا التوقيت المحدد ؟ وكيف تعمل بتناغم تام ؟ وما هي الآلية المتخذة لتنفيذ مخططاتها التخريبية ؟ .
وهنا تصدمنا الدهشة المحيرة عن جسور تواصلها المزدوج وتداخل خيوطها الدقيقة في إطار الدولة والمعارضة والتخريب والإرهاب نراها في قمة هرم الدولة وفي صفوف المعارضة وحاملة السلاح للحرب الشاملة والمتلصصة في قطع الطرق وإخافة الآمنين والمخربة لأنابيب النفط وأسلاك الكهرباء والداعية لفك الارتباط والباكية على الوحدة وانفراط عقد الوطن والممثلة داخل مؤتمر الحوار والمصوتة على اللوائح والقوانين والمبرمجة لخطوات طوق النجاة والمرشحة لأقاليم الفدرلة والاتحاد والمنتقدة بشدة لمخرجات مؤتمر الحوار إنها الازدواجية المحيرة واللعبة ذات المتاهات المضللة تداخل في تكوينها خيوط ملونة تكون شبكة عنكبوتية تعمل على انصهار اللعبة السياسية في كيانها وتسمح بأطر التواصل والالتقاء عن طريق أثيرها المتواجد عند كل نقطة في سماء السياسة المتقلبة .
هناك مغالطة دعائية تظهر الجنوب وطنا مظلوما قد انتهكت حقوقه وسلبت أراضيه وقد سخرت الكثير من الأبواق الإعلامية لتضخيم هذه الدعاية بهدف التطبيع لفك الارتباط ونحن لاننكر المظالم الواقعة ولكنها ليست خاصة بالجنوب إنها تعم عموم الوطن اليمني من جنوبه إلى شماله ومن شرقه إلى غربه لكن الشمال لابواكي له يرزح تحت عبء الأحمال الثقيلة ويمتص مآسيه بصمت ويتلمظ من الألم والقهر ولا يجد من يبوح له ويشكو إليه ليخفف من ذلك الاحتقان المر المشتعل بنار الحرب والعنصرية والفوضى وعبث التخريب واشتداد الأزمات المولدة للفقر والمسغبة والحرمان ... فالظالم للجنوب والشمال هم من يتزعمون التخريب وهم مجموعة كبيرة في داخل الوطن وخارجه استمرأت الفساد وانطوت على نيات خبيثة تستمد وقودها من خارج الوطن لتعبث بأمنه واستقراره وتقف سدا منيعا أمام الخروج باليمن من أزماته وتعمل باستماتة للقضاء على قوى التغيير الثورية وتعيقها عن أي تقدم لقيادة الوطن نحو التنوير وتحفر بإصرار متفان لتجد ثغرة واسعة تعود من خلالها لحكم اليمن والعبث بمقدراته والسيطرة على ثرواته التي سلبتها على مدى ثلاثة عقود ونيف من الزمان .
فتقسيم اليمن إلى دويلات اتحادية تقوم على نظام الفدرلة ما هو إلا استجابة لتلك القوى الانتهازية التي تريد لليمن التشظي والتفكك والانهيار فكيف بالفرقة بعد الوحدة ؟ والانحسار بعد الاكتساح؟ والضعف بعد القوة ؟والتناحر بعد التلاحم ؟فهل نحن كالتي نقضت غزلها بعد قوة ؟ أم نزعتنا عروق الوراثة إلى أجدادنا السبئيين الذين طلبوا البعد بعد القرب والنقمة بعد النعمة والفرقة بعد الاجتماع " وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين .فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " سبأ 18ـ19 إن نعمة الوحدة التي أولانا الله بها تحتاج إلى شكر دائم وعض عليها بالنواجذ فإذا سلبت منا فإنها لا تعود فالاتعاظ بأسلافنا الذين أنعم الله عليهم فلم يشكروا النعمة ومن عليهم بالوحدة فلم يحرسوا على الاجتماع فسلبوا تلك الجنان وأبدلوا بها الخمط والأثل وشيء قليل من السدر وتفرقوا في الأرض وضربت بتفرقهم الأمثال " لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور , فأعرضوا فأرسل عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل , ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور " سبأ 15ـ16ـ17.
إن الشعب اليمني معروف بسلاطينه عبر التاريخ ولازالت تلك النزعة موروثة فيه وعندما نستقري التاريخ اليمني نعرف تلك الظاهرة التي تجسدت في العصر العباسي وما بعده وصار اليمن عرضة للأطماع الدولية منذ استعمار الحبشة ثم الفرس ثم كان محضنا لكثير من طلاب الملك على مر العصور والحقب ابتداء بالأسود العنسي ومرورا بنظرية الهادي وأحفاده في صعدة ثم القاسم العياني وأحفاده في الجوف وآل نجاح في زبيد وآل زريع في عدن وآل معن في حضرموت وآل يام في صنعاء ثم الدعوة الباطنية الإسماعيلية على يد على بن الفضل وعلى محمد الصليحي ثم الدولة الأيوبية والرسولية ثم العثمانيين وقد دار صراع طويل عبر التاريخ بين تلك الفئات كم سفكت فيه من دماء كبيرة بسبب التناحر والاقتتال على الملك تارة بين هذه الفئات ومناوئيهم وتارة بين هذه الدعوات نفسها مثل الذي حدث بين أحفاد الهادي أو بين الرسوليين من صراع حول الملك أو ما حدث من صراع بين تلك الممالك المتعددة التي لا يمكن استقرائها إلا ببحث مضن واعتكاف طويل .
ففتح باب الدولة الاتحادية فيه تغرير كبير بوحدة اليمن واستقراره ولاشك أن هناك من يدس السم في الدسم وهو يعلم ما ستصير إليه الأمور وأي دولة دخل فيها الغول الخارجي لا تخرج من محنها ولنا في الصومال وأفغانستان والعراق عظة وعبرة وفي ظل الإشراف الدولي ورفع لافتة حقوق الإنسان هذا المدخل الذي ظاهره الحق وباطنه الضلال والغواية وهو المشجب الذي تعلق عليه الدول الكبرى مفاتنها وتغري فيه الأقليات اليهودية والمسيحية والعرقية لرفع سقف المطالب بالحقوق والحريات ولربما تطلع لنا الأقلية اليهودية والباطنية بالمطالبة بدولة مستقلة وليس ذلك ببعيد في ظل التنامي للنفوذ اليهودي على المستوى العالمي والعربي خاصة بعد سقوط تلك الأنظمة بثورات الربيع العربي وبعد انتكاسة ثورة الربيع العربي بمصر وتنامي الردة الديمقراطية عن الحقوق والحريات للشعوب الثائرة بفعل الدعم الدولي والإقليمي الأمر الذي سبب التراجع للقوى الثورية عن التصدر إلى مربع الصفر .
حتى... لا نكون أحاديثا ونمزق كل ممزق
اخبار الساعة - إبراهيم القيسي