أخبار الساعة » كتابات ومنوعات » اقلام وكتابات

الثورات وضرورات المجتمع المدني

- محمد علي الحلبي

محور فلسفة التاريخ تركز ومنذ بدء الخليقة،وحتى اليوم،وسيظل الركيزة الحياتية الأساسية مستقبلا ً.

ذلك المحور هو الصراع بين الحق والباطل، والشرائع السماوية جسّدت مفهوم الحق بأروع صورة، ووضعت أسسه وضوابطه، بينما راحت الشرائع الوضعية تحدد تنوعاته وأطرها من خلال توسع وتعدد الاحتياجات الإنسانية  عبر مسيرة الزمن وتماديه، وبالتالي فهي دائما توسع آفاقه واضعة أفضل صور تطبيقية له.

ومن أسماء الله الحسنى-  الحق-  وهو الموجود حقيقة على وجه لا يقبل العدم،ولا التغيير،والكل منه وإليه،ويبقى ملكه الدائم للحق وحده   ,   وقدسية هذه الكلمة مستمدة أيضا  من غنى وثراء مضامينها،وأزلية وجودها.

وحكيم شعراء العرب زمن الجاهلية"زهير بن أبي سلمى"المتوفى عام13ق.هــ يقول في رائعة من روائعه:

          بدا لي أن الله حــق فـزادني                إلى الحق تقوى الله ما كان بادياً

          بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم            وأموالهم ولا أرى الدهر فـانياً

 

   و من تدرج الزمن بين صعود وهبوط تبقى الغلبة دائماً،وأبداً لنور وضياء هذه القيمة الخالدة مصداقاً لقوله تعالى في سورة الإسراء،الآية81"وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"والحق في هذه الآية عنى الإيمان وزوال الشرك،وفي أعماق الإيمان تكمن خزائن القيم  حيث تدور فلسفتها حول السعادة،والخير،والجمال.

من هذا المنطلق تواجدت وتتواجد في الحرية الرحاب الواسعة والفضاءات الممتدة للوجود الإنساني،وعندما يمتلك الإنسان حريته ولا يحجبها عنه أحد تحت أية ذريعة كانت يصبح كالطائر المسمى مجازاً  "طائر الحكمة" وهو اسم رائع للباحث عن الحقيقة الموضوعية،والحق الأزلي الأبدي زاده في ترحاله وبحثه أجنحة ترتفع به إلى الأعالي....إلى السماء الصافية مقترباً من النجوم في ألقها، وآخذاً من الشمس الكثير من ضيائها ونورها،والنور شعلة الأسلوب والطريقة الوحيدة لليقين،واليقين انكشاف الحقيقة،ومن سما في تحليقه،وعلا اقترب وهو على بعد كبير من الحقيقة الأزلية الله جلت قدرته وهو الحق الحكم،ومن هذه الاشراقات  الفكرية يبرر الترابط الوشيج بين الحرية والحق،فمن أولى أولويات الحقوق....الحرية، والتي بدورها تتعزز معانيها من خلال الإبداع، والنقد، وتلمس الفضائل، وتمتين وجودها....ألم يقل الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم: "الساكت عن الحق شيطان أخرس"  وبذا يضع الإسلام قاعدة الوجوب على الإنسان،فالحرية وإن كانت حقاً أقرته الشرائع السماوية والدنيوية إلا أنها واجب إيماني يجب التمسك به واعتماده في كل مجالات الحياة،وهي فريضة على الحاكم والمحكوم ،فالحاكم مُطالب بتنفيذها عن طريق الشورى،وعن طريق تحقيق العدالة والنظام القضائي المستقل،ونشر التعليم،وتحقيق الاكتفاء الذاتي ما أمكنه ذلك بحيث لا تخاف الرعية من ظلم،أو فقر،أو تهميش إذا مارستها،والمحكوم مُطالب بها فرداً كان أم جماعة في كل المجالات،وتجاه الحاكم،وتجاه الآخرين.

 

 

   لقد مرّت على الأمة العربية قرون وعقود انتُزعت منها حرياتها فكانت الاحتلالات في العهد العثماني،وفي الانتدابين الفرنسي والإنكليزي بعد الحرب العالمية الأولى،وفي الاحتلال الإيطالي لليبيا فلم تبق إلا أجزاء بسيطة من الأرض دون أن تكتوي بمآسي هذه الظروف لكن الأشد قتامة وظلماً تلك المرحلة التي أعقبت خروج المحتلين،فاستولت الأنظمة الشمولية على أغلب مساحات الوطن العربي ، فاشتد الظلم،وذبحت الحريات تباعاً على وقع الأيام،فسادَ البؤس،وساد ضيق على  الحاجات ، واشتد الحنين للجذور،وعن ذلك عبّر الشاعر العربي السوري"ميخائيل الله ويردي "1868-1945م قائلا :

          فظلم غريب الدار ليس غرابة              وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

وقد سبقه بمئات السنين الشاعر الجاهلي"طرفة بن العبد"توفي عام60ق.هــ إذ قال:

          وظلم ذوي القربى أشد مضاضة          على المرء من وقع الحسام المهند

ومنذ القديم،فالشاعرة العربية الجاهلية"هند بنت الخس"كانت ترد سوق عكاظ،ولها أخبار فيه قالت عن التعنت والتجني على خليقة الله:

          وذو الظلم مذموم الثنا ظاهر الخنا        غنيّ عن الحسنى وبالشر يعرسُ

وهكذا فصاحب الظلم يظهر الفحش بأبشع صوره عليه وعلى أعماله،ومن شدة الضيق،وتنامي الآلام التي لم تعد تحتمل على الأرض العربية كان التفكك والتشرذم،والصراعات العربية-العربية،والاحتلالات الأجنبية،وحتى بذور الفتن الداخلية تحت ذرائع عدة،وتشويه،واستغلال العناصر المكوّنة للشعب العربي،و توقف مشاريع التنمية،وتعطيلها،والتجمد في الحراك من أجل الوحدة،وقمع للحريات،وازدياد النفقات لتوسيع مراكز الاعتقال،والتفنن في تعذيب أصحاب الرأي الحرّ،وغيابهم عن أهلهم ومجتمعهم سنين وسنين فلم يعد من أية قيمة للزمن قي حياتهم،وغالباً،ما تكون السجون المكان الأخير لرحلة الأبدية ،وازداد الفقر و تنوعت مستوياته و هناك من هبطوا ونزلوا إلى ما بات يُعرف بتحت خط الفقر بينما الإثراء غير المشروع والنهب أصبح ديدن ذوي الشأن والجماعات المحيطة بهم.

من هذا كله كان الربيع العربي،ومنبع الثورات التي راحت تجتاح قطراً إثر آخر،والربيع عند قدامى العرب كان ربيعين الأول تظهر فيه الخضرة والنور وهي الأزهار البيضاء،والثاني تدرك فيه الثمار،وبذا تتلاقى الألوان في جمالية رائعة للكون،فالبياض رمز النقاء والصفاء والخضرة رمز للآمال القادمة بغدٍ ثرٍ تقطف فيه خيرات ثماره،وتعود الأمة إلى أصالة تاريخها المجيد وعطاء حضارتها.

وطبيعي أن ترافق الثورات الربيعية عوامل ومظاهر كابحة لها في محاولات للحدّ من نجاحها الكامل لكن النضج والوعي والتثوير لها وهنا يقال ثور الأمر:أي بحثه بوعي وإدراك الثوريين العميق للغايات التي يهدفون لها ،والسبل المتطورة إليها المتوائمة مع الظروف المحيطة بها في جميع المجالات الداخلية،والإقليمية،والدولية.

كل ذلك يؤدي الى النصر،ولأن مطالب الثورة حق وأغلب ما سبقها باطل فالله جلت قدرته وعد بانتصار الحق وزهوق الباطل وغيابه.

ومن خلال إيماننا بأحقية وضرورة الثورات في ظل الظروف القائمة المعتمة،وحرصاً عليها وعلى استكمال نبل غايتها،فهدفها الأسمى العشق والولع بالحرية،والعيش لها ومن أجلها،وبها،فهي سنّة الإبداع والتطوير للمجتمعات كان لابد من التذكير بأن بناء الأوطان،وتعزيز منعتها وكرامة أبنائها يحتاج إلى الجهد الجماعي لمكوناتها وأطيافها،فعظم الغايات ونبلها لابد من تناسب عددي يواكبها يضم المجتمع تحت لوائه لذا بات ما يعرف في زماننا المعاصر بالمجتمع المدني،أو الأهلي أحياناً الصيغة المثلى لتحقيق الآمال والأماني.

 

   تقوم فلسفة التنظيم في المجتمع المدني على نظرية العقد الاجتماعي والتي تهدف إلى فك الارتباط بهيمنة الدولة لا بل العمل لتأسيس السلطة،والموسوعة العربية عرّفته بأنه عبارة عن"مجموعات تنظيمية مستقلة ذاتياً والتي تملأ المجال بين الأسرة والدولة في غير ربحية تسعى إلى تحقيق مصالح ومنافع المجتمع ككل،أو بعض فئاته المهمشة،أو لتحقيق مصالح أفرادها ملتزمة بقيم ومعايير الاحترام والتراضي،والإدارة السلمية للاختلافات والتسامح وقبول الرأي الآخر " ، وهكذا فمعرفة البدايات الحقة وتعزيزها يزيد من تنامي المعارف للمنضوين تحتها،وترفع سقف المطالب الإصلاحية والديمقراطية،والمطالبة بها لا بل العمل من أجلها في كل الشعاب،وبذلك تصبح هوامش الاختلاف مع السلطة قليلة لا بل وتتعاظم اللحمة بين الدولة والمجتمع الطريق الأمثل لبناء الأوطان ،  والنماذج التكوينية لهذه المنظمات عديدة فهي تشمل الجانب الاقتصادي،والاجتماعي،والحرفي،ومع تقدم الزمن تتطور المفاهيم والسبل لابتكار أطر تنظيمية جديدة تلبي الطموحات المتجددة دوماً.

ومن الأهمية وعلى ما ورد في تقرير منظمة "التعاون والتنمية"  في الميدان الاقتصادي أوضح أن مساهمات المجتمع المدني المادية  تتراوح ما بين6-7مليار دولار سنوياً في أواخر القرن العشرين،وعلى سبيل المثال ففي مصر عام2004هناك25ألف جمعية،أو هيئة مدنية منها 18ألف جمعية، والأحزاب السياسية14حزباً، والنقابات المهنية24نقابة، أما النقابات العمالية فعددها22نقابة،ومنظمات الدفاع ومناصرة الحقوق تعدت23منظمة،وهنا لابد من التساؤل عن دورها في تلك الحقبة،والجواب يأتي تباعاً....لقد جمّد النظام السابق أغلبها ، وحدّ من قدراتها فكانت الثورة،لذا لابد من التأكيد هنا ومنذ الأيام الأولى للثورات على أهمية بناء هذه المنظمات وتعزيز دورها في جميع مجالات الحياة الاجتماعية برسم حدود التباين والتوافق بينها وبين الدولة بحيث تكون الدولة في خدمتها،وهي بالتالي في خدمة مجتمعها،وبذا يتوضح مفهوم الخدمة بأسمى معانيه.

 

   لقد بات واضحاً أن المنظمات المجتمعية غاية في التنوع والانتشار لتشمل جوانب الحياة كلها منها الجمعيات الخيرية،والجمعيات الاستهلاكية،ومكافحة الأمية، و المراكز الصحية لمساعدة المرضى ذوي الدخل المحدود ارتقاء إلى تعاون يقارب الاندماج بين نقابات المهندسين وجمعيات التعاون السكني لحل أزمات السكن التي صعُب على الأنظمة جميعها حلها.

إن النقابات المهنية وهي ركن من أركان المجتمع المدني معنية بأمور أعضائها،ورفع مستوياتهم العلمية والفكرية،والمحافظة على حقوقهم،وتشجيع مساهماتهم في صناديق التقاعد المخصصة لهم لحمايتهم في أواخر أيام حياتهم،كما أنها ملزمة باقتراح تطوير مؤسسات الدولة القريبة من تخصصها ،فنقابات المحامين يبقى شغلها الدائم استقلالية القضاء،وبناء أسس الحق،والمساهمة في تقليص مدد الدعاوى القضائية والتي باتت تستغرق سنين عديدة،ونقابات الصيادلة تأتي في أولوية عملها الحرص على توسيع الصناعات الدوائية،وبحث سبل تطويرها،والتخفيف من الاستيراد لها.

إن صورة رائعة للمجتمع المدني لم تكتمل بعد ملامحها ،ولابد لمفكريّ وسدنة الحرية وعبّادها من النصح،والعمل من أجلها وتوسيع آفاقها ،وتتبدى فكرة رائعة خلال التطورات المجتمعية الحديثة فلقد بدأ بظهور ما يسمى بالرأسمال الاجتماعي،وبتسمية أدق وأسمى بالرأسمال الأخلاقي وهو قدرة المجتمع على الارتقاء بنفسه،وتكامل جهود أبنائه،وتلاقي عطاء أفراده فأمريكا أخذت مؤخراً بفكرة الوقف التي تبناها الإسلام للمساهمة في تمويل دور العبادة ودور الرعاية الإنسانية الملحقة بها،فجامعة"هارفارد"جزء مهم من تمويلها يأتي عن طريق الأوقاف التابعة لها والمموّلة لميزانيتها المقدرة بأكثر من ثلاثين مليار دولار،والدول التي تحترم نفسها تعفي المواطن من10%من الضرائب المترتبة عليه إذا تبّرع بها للجمعيات الخيرية،أو المؤسسات الاجتماعية والتعليمية.

 

   لنتصور التطور الكبير الذي قد تقوم به مجموعة الثوار البناة الجدد لو أقاموا جمعية،أو أكثر لتعليم الفتيات مهناً يدوية سيما في الريف تساعدهن في حياتهن كالخياطة،التطريز،وصنع السجاد000000 وقدّموا للمتفوقات منهن هدية بمناسبة نجاحهن....آلة لصنع ما تدربّن عليه.

إنه المجتمع المدني المؤمن يربه ووطنه , والمركز الثابت أيدا  للحرية المبدعة حيث يتلاقى الأفراد على خدمة الكل،وبناء ذواتهم،وبناء مجتمعهم وكلما ازداد العمل المجتمعي زالت الفوارق بين مكونات المجتمع ودُفنت فيه كل العوامل التي قد تُستغل لبث الفتن تحت مسميات عدة.

نداء إلى الثوار الذين انتصرت ثوراتهم، وإلى الذين اقتربوا من الانتصار أن يدركوا أن بناء الحرية صعب لكنه رائع وجميل، وخالق ومبدع 000 ادعموا منظمات المجتمع المدني بالانتساب إليها وإبداع نماذج جديدة منها أنتم للحق ومع الحق وللبناء، والنصر حليفكم.

Total time: 0.0521