في وهج الثورات تأخذنا العواطف لدرجة لا نرى فيها إنسانيتنا، بل نرى مواقف سياسية يحاسب بعضنا البعض عليها، إما بحثا عن وطنية زائفة، وإما مزايدات تبدو أخلاقية في ظاهرها، لكنها غير ذلك إذا أمعنت النظر فيها. أقول هذا بسبب ما أثاره مقالي عن عرض قناة «الجزيرة» المستمر والمتكرر لصور طفل ميت ويبدو التعذيب على جسده؛ حيث اتهمني بعض القراء ممن كانوا يقرأون لي ويحترمونني، على حد قولهم، بأنني «أصبحت جزءا من النظام السوري البائد»، على حد تعليق القارئ الأستاذ سامي عثمان من المملكة المتحدة. وكرر الاتهام نفسه أكثر من قارئ، مما استوجب الرد.
القضية، التي كانت المحور الأساسي في المقال محل النقاش، لم تكن الأوضاع في سوريا، كانت بكل وضوح عن الإعلام العربي، وكيف أنه في هذه المرحلة، التي يسودها التطرف والاستقطاب وروح الانتقام، يجب على الإعلام أن يتحمل مسؤولياته التي تفرضها أخلاق المهنة، والتي من أهمها احترام إنسانية المتلقي، مشاهدا كان أو مستمعا أو قارئا. فما عرضته «الجزيرة» من صور لطفل ميت معذب هو ضد ما هو إنساني، كما أن القتل في سوريا وفي ليبيا وفي اليمن وفي مصر وفي تونس وفي أي مكان في العالم ليس إنسانيا بالمرة. لكن ما أثار حفيظتي وحفيظة أي إنسان سوي هو تلك القسوة التي ترى في صورة طفل معذب أداة لتجييش الجماهير من أجل إسقاط نظام أو من أجل موقف سياسي نفقد معه إنسانيتنا كثمن لموقف جماعة من نظام أيا ما كان هذا النظام.
أعرف أن من يسوق حججا كهذه في هذا الظرف المتأجج ينظر إليه على أنه يريد شيئا ما من الطرف الثاني، لكن الحقيقة بالنسبة لي مغايرة لذلك تماما.. فأيام الثورة المصرية كنت من قلة جدا من المثقفين المصريين الذين وضعوا رقابهم على المحك، في حين كان الكثيرون يمسكون العصا من المنتصف، وعلى من يشكك في هذا الأمر أن يعيد شريط المقابلات التلفزيونية والمقالات الصحافية في الفترة ما بين 25 يناير (كانون الثاني) حتى سقوط مبارك في 11 فبراير (شباط). بكل تأكيد وخلال الفترة التي لم يكن فيها الأمر محسوما، كنت أول من وقف ضد النظام من دون مواربة. والأشرطة والمقالات تشهد، فلست أنا من الثوريين بعد نجاح الثورة، كما أنني لم أتاجر بموقفي أو أعيد غسيل موقفي بعد سقوط النظام، كنت ضد النظام بوضوح، خصوصا بعد أن بدأ النظام سياسة القتل العمد للمتظاهرين. هذا موقفي الواضح في ثورة مصر التي كنت أعيش مع أبنائها يوما بيوم في ميدان التحرير وأعرف نبضها وإيقاعها جيدا. أنا لم أكن يوما الابن المدلل لأي نظام، لم أكن في مصر، فلِمَ أكن في سوريا أو غيرها؟
فإلى الإخوة المعلقين بعد نهاية المباراة وضمان النتيجة ومعرفة من كسب ومن خسر، أقول: إن المعلق الشاطر هو الذي يعلق أثناء المباراة لا بعدها، كنت ضمن مجموعة تعد على أصابع اليد الواحدة في مصر ممن أعلنوا موقفهم بما لا لبس فيه منذ يوم 28 يناير، ولم أتراجع خطوة واحدة.. وبغض النظر، الذين يطالبونني بأن أقبل ما تعرضه «الجزيرة» على الرغم من اختلافي معه، وكأن «الجزيرة» هي من تمنحنا صكوك التفوق الأخلاقي، فهذا أمر غير مقبول.
منذ أسبوع كنت أنا والدكتور حسن نافعة في مواجهة أستاذين أميركيين على شاشة التلفزيون الياباني، وكان أحدهما متطرفا ممن يبررون لإسرائيل على حساب العرب في كل وقت، وعندما قلت له: إن الثورات العربية أنهت مقولة إن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في المنطقة. قال بكلام فوقي إنه لا يدعو أميركا أن تساعد مصر؛ لأن مصر لن تكون ديمقراطية.. وقال أشياء كثيرة عن أميركا وإسرائيل وموقف الثورة المصرية من الدولتين. يومها كان ردي: «كنت في ميدان التحرير أيام الثورة كلها، ولم تكن الثورة عن أميركا وعن إسرائيل، ولم يكن لأميركا دور فيها، فلماذا هذا الغرور وهذا الإصرار على أن لكم دورا في الثورة أو أنكم من صنع الثورة؟ الثورة كانت مصرية من أجل مصر والمصريين، وقام بها المصريون أنفسهم دونما مساعدة من أحد. فلـ«تنقطونا بسكاتكم»، وتكفوا عن غروركم غير المبرر بأنكم من صنع الثورة». بالطبع الشريط موجود والدكتور حسن نافعة حيٌّ يرزق. ما قلته للأميركي المتعجرف أقوله أيضا لـ«الجزيرة»؛ لأن هناك من يتصور أن «الجزيرة» هي من صنعت الثورة. هذا ليس صحيحا على الإطلاق، لم تكن الثورة عن «الجزيرة» أو عن قطر أو عن أميركا، الثورة كانت عن مصر.
وعندما كتبت المقال عن عرض صورة لطفل مشوه، كنت أتحدث طيلة المقال، وبالتفصيل، عن المسؤولية الأخلاقية للإعلام والشروط المهنية التي تحددها، هذه المسؤولية التي تحمي إنسانيتنا كبشر ومشاهدين. غالبا ما أقول لأصدقائي إنني لا أكره أحدا، لكن أحيانا تكون لديَّ مواقف محايدة: لا محبة ولا كراهية؛ لأن الكراهية مثل فيروس يدخل على الروح فيخربها، وأنا ضد الكراهية، ليس لحماية الآخرين، بل لحماية نفسي من هذا الفيروس الفتاك الذي يقضي على إنسانية الفرد. وأستغرب موقف من يظنون أن المقال كان عن سوريا. المقال كان عن إنسانيتنا التي نخربها بأيدينا، بل ونصطف فرادى وجماعات من أجل القضاء على ما تبقى فينا من إنسانية. وأخيرا، الثورات لا يحركها أحد، لا «الجزيرة» ولا غيرها، الثورات يقوم بها أصحابها، والبقية مجرد متفرجين، حتى لو في لحظة من لحظات الأمراض النفسية ظنوا أنهم مشاركون، كمن يشاهد مباراة على التلفزيون ويضرب بقدمه الكنبة، ظانا أنه في الملعب، أقول لهؤلاء: لا تصدقوا أوهامكم حتى تحافظوا على سلامة أقدامكم.