أدى ضعف المراكز السياسية والعسكرية العربية التقليدية، نتيجة الاضطرابات في الشرق الأوسط، إلى إحداث تغييرٍ في سلوك بعض دول الخليج العربية وعزز من نفوذها. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، دولة الإمارات، التي قدمت نفسها كفاعلٍ رئيسيٍ في العمليات التي تشكل المنطقة.
وبعد التعامل مع التهديدات المحتملة في الداخل، قام الاتحاد (الذي يضم إمارة أبوظبي ودبي وعجمان والفجيرة ورأس الخيمة والشارقة وأم القيوين) بدورٍ قياديٍ في التعامل مع بعض القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية التي يطرحها الربيع العربي.
وكان انسحاب القوات البريطانية من مناطق «شرق السويس» عام 1971 قد سرع عملية تشكيل دولة الإمارات العربية المتحدة باتحاد إمارات الساحل المتصالح. وبعد خمسة وأربعين عامًا، تركز ثاني أكبر الدول اقتصادًا في الشرق الأوسط، والتي تملك أفضل العسكريين المدربين والمجهزين بين الجيوش العربية، على تحييد التهديدات الإقليمية، وعلى امتلاك النفوذ خارج حدودها.
وفي حين أنّ علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وعضويتها في مجلس التعاون الخليجي لا تزال تشكل عناصر أساسية في سياستها الدفاعية، فقد استخدمت الإمارات جيشها بشكلٍ أكبر منذ اندلاع الاضطرابات الإقليمية. ويعد هذا النشاط الذي يميز سياستها الخارجية مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بشكوكها بشأن التزام الولايات المتحدة بأمنها في المستقبل، وانشغالها بشأن مواجهة إيران والإسلام الراديكالي وتأثيرهما على استقرارها الداخلي. ويقول وزير الدولة للشؤون الخارجية في دولة الإمارات: «لا يمكننا أن نكون بيتًا مستقرًا، إذا كانت النيران تنتشر حولنا».
إسبرطة الصغيرة
وكجزء من هذا التوجه، افتتحت الإمارات قاعدةً بحريةً وجويةً لها في إريتريا على ساحل البحر الأحمر، وبذلك أصبحت الدولة العربية الوحيدة التي لها قاعدة عسكرية خارج حدودها. وكذلك أفيد مؤخرًا بأن الإمارات قامت ببناء قاعدة عسكرية إضافية في شرق ليبيا. وعلى الرغم من جيشها الصغير (حوالي 50 ألفًا من العسكريين)، فإنّ الإمارات مجهزة تجهيزًا جيدًا بأحدث أنظمة الأسلحة التي يمكن الحصول عليها، واكتسبت خبرة عملية واسعة في أفغانستان والصومال والبوسنة. وكانت قواتها حاسمة في قمع الانتفاضة الشيعية في البحرين عام 2011، وشاركت قواتها الجوية في حملة للإطاحة بنظام «معمر القذافي» في ليبيا. ويؤدي الجيش الإماراتي (الذي يضم مرتزقة) دورًا رئيسيًا في استمرار العمليات الجوية والبرية والبحرية ضد الحوثيين في اليمن، وهو الشريك العربي الأكثر نشاطًا في التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية (إلى جانب دعمه لجماعات المتمردين التي تسعى للإطاحة بنظام الأسد).
علاوةً على ذلك، هاجمت قوات البلاد الجوية أهدافًا في ليبيا عدة مرات، باستخدام القواعد المصرية. وبالإضافة إلى تقديم المساعدة المالية لنظام «السيسي»، تسمح الإمارات لمصر باستخدام طائرات بدون طيار للمراقبة، تصنعها شركة أدكوم في أبوظبي، في شبه جزيرة سيناء.
وخلافًا للجيران العرب الذين يشترون أنظمة أسلحة متقدمة ولكن غالبًا ما تترك بدون استخدام، تستفيد الإمارات من مشترياتها على النحو الأمثل، وبالتالي اكتسبت لقب «إسبرطة الصغيرة»، داخل الجيش الأمريكي. وقال الجنرال المتقاعد «جيمس ماتيس»، الذي رُشح كوزيرٍ للدفاع في إدارة «ترامب»، واصفًا الإمارات: «هناك احترامٌ متبادلٌ وإعجابٌ بما فعلوه وما يمكنهم القيام به».
علاوةً على ذلك، تسعى الإمارات إلى ردع إيران وإقامة علاقات أوثق مع واشنطن، من خلال السماح للقوات الجوية والبحرية الأمريكية بالعمل في أراضيها (يوجد حوالي 5 آلاف من العسكريين الأمريكيين متمركزين في الإمارات) والدخول في صفقات ضخمة لشراء الأسلحة. وكانت الإمارات أول من يطلب نظام الدفاع (ثاد)، وتتطلع الآن لشراء الطائرة المقاتلة من طراز إف-35.
وبالنظر إلى النسبة القليلة للمواطنين بين عدد سكانها (من أصل تسعة ملايين نسمة، حوالي مليون نسمة فقط إماراتيين)، والاحتياطيات النفطية الضخمة المثبتة داخل حدودها (حوالي 100 مليار برميل من النفط)، نجد أنّ دولة الإمارات من أغنى دول العالم. وتتيح هذه الثروة لولي العهد الأمير «محمد بن زايد»، الحاكم الفعلي للبلاد، شراء الهدوء الداخلي. وقد دفعت موجة الاحتجاجات الإقليمية بعض المثقفين والشباب في الإمارات إلى المطالبة بالحرية السياسية. ومنذ ذلك الحين، تم إسكات هذا الاحتجاج الطفيف، الذي يعبر عنه أساسًا في وسائل التواصل الاجتماعي، وشرعت الإمارات في قمع أي اضطرابٍ محتمل، وخاصةً أي علاقة مع جماعة الإخوان المسلمين. وبالإضافة إلى ذلك، وبسبب المخاوف بشأن الاحتجاجات نظرًا للاتجاه الهبوطي لأسعار النفط على مدى العامين الماضيين، منحت الإمارات مكافآتٍ وعلاواتٍ سخية للمواطنين، وتم إعطاء دور أكبر للنساء والشباب في مؤسسات الدولة.
العلاقات مع إيران
وقد تفاقمت التوترات بين الإمارات وإيران في الأعوام الأخيرة، بسبب دعم طهران للحوثيين في اليمن و«نظام الأسد» في سوريا. وبالنسبة للإمارات، تشكل إيران التهديد الرئيسي للاستقرار الإقليمي، ولا يتردد قادة الإمارات في انتقاد إيران لتدخلاتها المستمرة في الشؤون العربية. وفي الوقت نفسه، تحرص الإمارات على حماية علاقاتها التجارية مع إيران، وتسعى إلى الاستفادة من إزالة العقوبات المفروضة على إيران وزيادة حجم التجارة الثنائية.
وحقيقة أنّها هي ثاني أكبر شريك تجاري لإيران (بعد الصين)، قد دفع البعض في الإمارات إلى اتخاذ موقفٍ أكثر واقعية تجاه طهران. وعلى الرغم من ارتفاع حجم التجارة مع إيران (تعمل العديد من الشركات الإيرانية داخل الإمارات، مستفيدةً من مكانة دبي كمركزٍ مالي)، تبقى قضية الجزر الثلاث المتنازع عليها في الخليج العربي عقبة أمام العلاقات بين البلدين. وبعد انسحاب القوات البريطانية من الخليج، استولت إيران على طنب الكبرى وطنب الصغرى. وفي عام 1992، أكدت إيران سيطرتها الكاملة على أبو موسى، وخرقت اتفاقية السيادة المشتركة بين البلدين. وفي الأعوام الأخيرة، زادت إيران سيطرتها على الجزر، ولا تعترف بالحقوق التاريخية للإمارات، وتدعي حقها، غير القابل للنقاش، في الجزر.
العلاقات مع السعودية
تتمتع الإمارات والسعودية بعلاقاتٍ أكثر دفئًا منذ اندلاع الاضطرابات في الشرق الأوسط، وتتعاون الدولتان في عددٍ من المجالات. وقد ساهمت العلاقة الشخصية بين «محمد بن زايد» و«محمد بن سلمان»، ولي ولي العهد ووزير الدفاع في المملكة العربية السعودية، في تعزيز هذه العلاقات. وهي على النقيض من العلاقات المتوترة التي كانت قائمة قبل تشكيل الإمارات المتحدة بين أسرتي آل نهيان و آل سعود، والتي رافقتها نزاعاتٍ حدودية متكررة، فضلًا عن التنافس على الأدوار القيادية في العالم العربي، وداخل مجلس التعاون الخليجي.
وعلى الرغم من التحديات الحالية المشتركة، لم يتبدد انعدام الثقة المتبادل تمامًا، وينعكس ذلك في جملة أمور تبرزها المواقف المتباينة بين أبوظبي والرياض تجاه الإخوان المسلمين ونظام «السيسي» في مصر. وتعد أبوظبي أقوى داعمٍ اقتصاديٍ لمصر، وقد تكون متورطة في تسهيل وصول «السيسي» إلى السلطة.
التنمية النووية
بغض النظر عن التأخير، سيتم توصيل أول مفاعل نووي (من أصل أربعة مفاعلات قيد الإنشاء حاليًا) بالشبكة الكهربائية بحلول أواخر عام 2017، وستصبح الإمارات العربية المتحدة أول بلدٍ عربي لديه برنامجٍ نووي مستدام. وعلى الرغم من أنّ الإمارات لديها واحدًا من أكبر الاحتياطيات النفطية المؤكدة في العالم، فإنّها تخطط لتنويع مصادر الطاقة، التي تعتمد حاليًا بشكلٍ كاملٍ تقريبًا على الوقود الأحفوري. وبالإضافة إلى الاستثمارات في تطوير الطاقة الشمسية، أطلقت الإمارات برنامجًا طموحًا لتوليد الكهرباء من خلال محطات الطاقة النووية سيضيف 5.6 جيجاوات إلى شبكة الكهرباء. وسيكسب إنجاز مشروع الطاقة النووية الإمارات مكانةً هائلة ومكانة إقليمية أفضل مقارنةً بإيران وجيرانها العرب.
وقد قدمت الإمارات حججًا مقنعة حول حاجتها إلى برنامجٍ للطاقة النووية، حيث تواجه زيادة الطلب على الطاقة، وترغب في الحد من اعتمادها على الوقود الأحفوري الملوث، وتحتاج إلى توفير المزيد من النفط للصادرات. وفي المستقبل المنظور، لا تشكل الإمارات في الواقع تهديدًا لانتشار الأسلحة النووية. ومع ذلك، قد يكون لبرنامجها النووي في المستقبل البعيد مساهمة رادعة، ربما لأنّ منافسيها يشعرون بالقلق إزاء إمكانية احتواء برنامجها النووي على بعدٍ عسكري. وظهرت الشكوك حول التزام الإمارات المستمر بحظر تخصيب اليورانيوم داخل حدودها بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران، وفي ضوء بعض التصريحات التي أدلى بها قادة الإمارات.
وستواصل الإمارات استخدام مواردها الاقتصادية الهائلة وقدرتها العسكرية في محاولة التأثير على الاتجاه الذي يتخذه العالم العربي. وفي الماضي، أظهرت الإمارات الاعتدال وضبط النفس في علاقاتها الخارجية وكانت تقف في ظلال الدول الأخرى. إلا أنّها قد أصبحت اليوم قوةً دافعة وراء العديد من التغيرات الإقليمية، وهي لاعبٌ رئيسيٌ في العديد من المجالات لا يقل عن السعودية، بل وتتفوق عليها أحيانًا. ويدرك الكثيرون في العالم العربي وفي أماكن أخرى الآن أنّ الإمارات لديها القدرة على التأثير في الاتجاه الذي تتخذه التطورات الإقليمية، وأصبحت الدول المختلفة تسعى لأن تكون الإمارات إلى جانبهم. ومن جانبها، تدرك (إسرائيل) أيضًا بأنّ الإمارات عنصرٌ أساسيٌ في جهود (إسرائيل) لتعزيز العلاقات مع العالم العربي السني.
المصدر | معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي