في الحادي والعشرين من شهر فبراير/ شباط الماضي، أسدل الستار على حكم الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح . فبعد 33 عاماً ونيف، أنهى صالح فترة حكمه بأن تولى بنفسه الإشراف على تسليم السلطة للرئيس المنتخب عبدربه منصور هادي، وسط مقاطعة من المعارضة التي رأت أن مراسم تنصيب الرئيس الجديد “مجرد بدعة” من صالح، فيما رآها البعض بأنها ذات دلالة عميقة كرست نهاية سياسية عنوانها “لا غالب ولا مغلوب” في بلد يتوافر فيه السلاح أكثر من الغذاء والماء، فماذا حصل، ولماذا حرص صالح على تسليم السلطة في حفل بدار الرئاسة؟ وكيف سيتصرف الرئيس الذي دخل القصر ليرث كرسي صالح وأزمات اليمن الشائكة؟
منذ اندلاع ثورة الشباب في اليمن في الحادي عشر من شهر فبراير/ شباط الماضي، كان صالح يردد عبارة أنه لن يسلم السلطة إلا إلى أياد أمينة وعبر صناديق الاقتراع، فيما كان خصومه يطالبون باقتلاع نظامه وخروجه من السلطة، وفي المحصلة النهائية حقق الطرفان رغبتهما، فصالح خرج من السلطة، وهو مطلب الثورة والثوار والهدف الأكبر لهم، لكنه في المقابل كان خروجه ليس على الطريقة القذافية، ولا على طريقة زين العابدين بن علي أو محمد حسني مبارك، بل بتسوية سياسية أبقته لاعباً فاعلاً في الساحة عبر بقائه في السلطة مناصفة مع خصومه .
لمن يعرف صالح، فإنه لم يكن يريد هذه النهاية التي آلت إليها الأوضاع في البلد، فالرجل كان يخطط قبل ثورة الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة منذ أواخر العام قبل الماضي، لأن يقلع العداد الرئاسي قلعاً، أي أنه أراد أن يبقى حاكماً مطلقاً وكانت لديه من الإمكانات ما تجعله قادراً على تحقيق ذلك، وليس صحيحاً أن سلطان البركاني، وهو رئيس الكتلة البرلمانية لحزب المؤتمر الشعبي العام، تصرف من تلقاء نفسه من دون أن يكون قد تشاور مع الرجل القوي في المعادلة السياسية في البلاد عندما صرح أن الوقت قد حان ل “قلع عداد الرئاسة”، أي إلغاء شرط الدورتين لبقاء الرئيس في السلطة، إلا أن صالح شعر أن الأرض بدأت تهتز تحت قدميه بعد الحادي عشر من فبراير/ شباط، وكان عليه، وهو السياسي الذي لا يشق له غبار، إلا أن يقاوم رغبات خصومه أملاً في إنهاكهم والاستسلام لشروطه، كما كان يفعل في سنوات سابقة .
لم تجدِ حيل صالح وذكاؤه هذه المرة، فقد أسعفته لأشهر، ناور خلالها الجميع، واستطاع أن يؤجل استحقاق مغادرة السلطة لأشهر، وكان ذكياً بما فيه الكفاية ليتمكن من كسب بعض النقاط في الوقت الذي وقع فيه خصومه ببعض الهفوات، لكن موعد استحقاق مغادرته السلطة كان قد حل، وبدا أن الرجل قد لملم أوراقه للخروج، لكنه حرص أن يبقى حزبه كأحد اللاعبين الرئيسين في المعادلة القائمة التي كتبت فيها خاتمة الثورة .
وفي الثالث والعشرين من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني العام الماضي، وبتوقيعه على المبادرة الأخيرة بعد ممانعة طويلة استمرت أشهراً، حبس الناس أنفاسهم خوفاً من اندلاع حرب أهلية شاملة لا تبقي ولا تذر، أيقن صالح أن مشوار الرحلة قد شارف على النهاية، وأنه لابد أن يخلي موقعه لشخص يرى كثيرون أنه امتداد لنهج صالح، ويرى فيه آخرون قائداً من نمط جديد، لا شك أنه متحرر من عبودية السلطة، على الرغم من أنه خدم إلى جانب صالح لفترة لا تقل عن 18 عاماً .
يظهر عبدربه منصور في المشهد، ويغيب صالح عنه لأول مرة منذ أكثر من 33 عاماً، حيث تحول فيه “الراقص على رؤوس الثعابين” إلى مجرد رمز لحقبة انتهت، وإن كانت ذيولها لا تزال موجودة حتى اليوم .
ويتيقن كثيرون أن حقبة صالح لن تنتهي إلى الأبد إلا بعد انتهاء العامين المقبلين، حيث سيكون على اليمنيين كافة أن يعيدوا صياغة حياتهم بطريقة مختلفة، صيغة تبقي للجميع كرامته في ظل دولة اتحادية تلبي مطالب الجميع في المساواة، سواء في جنوب البلاد أو في شماله، شرقه أو غربه، فالظلم واقع على الجميع، والحل يجب أن ينصفهم من دون استثناء، فماذا يحمل المستقبل لليمنيين في العامين المقبلين؟ ماذا يحمل اليمنيون أنفسهم لبلدهم؟ وهل سيكونوا قادرين على كتابة تاريخ جديد لبلد يتهدده التشرذم والتمزق؟
اليمن سيكون بين عهدين مختلفين، الأول ارتكز على حكم فرد، فيما العهد الثاني يرتكز على حلم الملايين، والرئيس الجديد، وهو عبدربه منصور هادي سيواجه صعوبة في التوفيق بين آراء الناس ومطالبهم المختلفة، لكنه سيبدأ بقرارات تؤكد رغبة المواطن اليمني أينما كان في كتابة تاريخ جديد لليمن يخرجه من دوامة الصراعات إلى واحة من الأمن والأمان والاستقرار .
يفتتح عبدربه هادي عهده بترتيب الوضع الداخلي الذي جمدته الأزمة وعملية نقل السلطة، سيكون الرجل متحرراً من القيود التي لازمته طوال فترة الأشهر الثلاثة التي أعقبت توقيع الرئيس صالح على المبادرة الخليجية في العاصمة السعودية الرياض، مستنداً بذلك إلى التأييد الشعبي الذي حصل عليه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي منحته شرعية شعبية وسياسية معاً، كان يرغب فيها من أجل تطبيق المرحلة الثانية من المبادرة الخليجية التي تبدأ مباشرة بعد أدائه اليمين الدستورية في مجلس النواب السبت الماضي .
ما هي الأولويات؟
أمام الرئيس الجديد ثلاث قضايا مهمة يجب أن يشرع بتنفيذها على الفور من أجل حلحلة الأمور نحو الانفراج، القضية الأولى تتمثل في معالجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة وإعادة الخدمات العامة للناس، خاصة وأن المواطنين يعيشون أوضاعاً لا تعيشها حتى الدول الفاشلة، فمعظم الخدمات متوقفة والبنية التحتية مدمرة، وكل شيء معرض للانتكاسة .
القضية الثانية تتمثل في إعادة هيكلة الجيش من أجل إعادة الطمأنينة إلى الناس التي افتقدوها في المواجهات المسلحة التي ميزت المرحلة الماضية من الأزمة، بخاصة إعادة ترتيب الانقسام الحاصل في وحدات الجيش وإخضاعها إلى مرجعية واحدة تتمثل في وزارة الدفاع، وإلى القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو الرئيس نفسه عبدربه منصور هادي، وأية مواجهات عسكرية تقع بعد تنصيبه رئيساً سوف يتحملها هو لا “بقايا النظام”، كما يحلو للمعارضة أن تطلقها على أنصار الرئيس السابق .
بمعنى آخر فإن إعادة هيكلة الجيش يجب أن توفر أمناً للمواطن في العاصمة صنعاء، كما هي الحال لكافة المواطنين من المهرة حتى حجة، فذلك هو السبيل الوحيد لترجمة المبادرة الخليجية التي ستبقى مجرد حبر على ورق إذا ما استمرت الأزمة على حالها من دون تقدم .
أما القضية الثالثة فتكمن في إطلاق دعوة لإجراء حوار وطني شامل لا يستثني أحداً، بمعنى أن يشمل الحوار كافة أطياف العمل السياسي في البلاد، وبدرجة رئيسة الحراك الجنوبي والحوثيين، الذين يسيطرون على معظم مناطق شمال الشمال .
ويجب على الرئيس الجديد أن ينفذ ما وعد به ألا تكون هناك أي خطوط حمراء في الحوار الوطني القادم، ذلك أن وحدة البلد وأمنها واستقرارها منوط بنتائج الحوار الذي سيخوضه الجميع من أجل إعادة صياغة وترتيب البيت اليمني الجديد .
سيبحث السياسيون لأشهر شكل وهوية الدولة الجديدة، وفي الأغلب فإن الأفكار تذهب باتجاه البحث عن صيغة دولة اتحادية بأقاليم تعمل على إزالة الغبن الذي لحق بالمواطن جراء المركزية الشديدة . فالدولة الاتحادية هي الوحيدة التي ستكون قادرة على معالجة الأخطاء التي ارتكبت في عهد الدولة المركزية، وستكون قادرة على إتاحة المجال لإعادة الروح إلى الوحدة التي بدأ الكثير من اليمنيين ينظر إليها بأنها صنعت أزمات عوضاً عن معالجتها، فاليمنيون كانوا متفائلين في الوحدة كعامل من عوامل القضاء على بعض المظاهر السلبية لكنها جاءت لتعمقها أكثر وأكثر .
من الأولويات أيضاً الحرب على تنظيم القاعدة، وهي مهمة ليست هينة، خاصة إذا ما عرفنا أن تنظيم القاعدة بدأ يتمدد بشكل أكبر في المناطق الجنوبية من البلاد، وبالذات في محافظة أبين، لكأن القاعدة وجدت ضالتها في هذه المنطقة لتوطد نفوذها وتجد لها موطئ قدم، وهو ما يثير مخاوف الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد .
وكان الهجوم على القصر الجمهوري بمدينة المكلا بمحافظة حضرموت، شرقي البلاد، الذي تزامن مع أداء هادي لليمين الدستورية، كافياً لتدرك القيادة الجديدة جدية المخاطر التي تتهدد البلاد من تعاظم نفوذ تنظيم القاعدة، في كل منطقة في البلاد، وليس فقط في محافظة أبين، التي صار فيها التنظيم يتصرف مثل الدولة تماماً ويمارس المهام التي كانت تقوم بها أجهزتها الأمنية والقضائية وغيرها .
الدور الخارجي
ليس من السهل تخيل إنجاز المرحلة الثانية من المبادرة الخليجية من دون دعم خارجي، فالمرحلة الأولى التي توجت بانتخاب عبدربه منصور هادي، كانت تعتبر الأرضية للمرحلة الثانية، وفيها ضغط العامل الإقليمي والدولي بشكل كبير لإنجازها، صحيح أن هذه المرحلة واجهت صعوبات حتى الوصول إلى ما تم التخطيط له، مثل تشكيل حكومة الوفاق الوطني من المؤتمر وحلفائه واللقاء المشترك وشركائه، وتشكيل اللجنة العسكرية وأخيراً إجراء الانتخابات الرئاسية، إلا أن المرحلة الثانية تبقى هي الأهم والأخطر في تاريخ البلاد، لدرجة أن الكثيرين يرون أن العامين المقبلين هما أهم عامين حاسمين في تاريخ البلد .
ويبدو أن الدور الخارجي سيكون هو المؤثر في صناعة المرحلة المقبلة واستتباعاتها وإخراج الجميع إلى الطريق الآمن، فاليمنيون يدركون أنه لو ترك للسياسيين أن يحلوا أزمتهم التي صنعوها بأيديهم خلال عام من الأزمة، لكان نصف البلد قد دمر ونصفه الآخر ينتظر .
من هنا فإن الرهان على الدور الخارجي في إنجاح وإنضاج الحل للأزمة يبدو قائماً في ظل استمرار الخلافات بين أطراف العملية السياسية في شأن قضايا صغيرة، فما الحال لو ترك الأمر لهم ليحلوا القضايا الكبيرة؟
ويبدو أن تشكيل الدول الإقليمية، ممثلة في دول مجلس التعاون الخليجي، والاتحاد الأوروبي إضافة إلى الولايات المتحدة وروسيا غرف عمليات لمتابعة الأوضاع وتقاسمها للقضايا المطروحة على أجندة العامين المقبلين، يؤكد استشعار هذه الدول بخطورة الوضع في اليمن وعدم السماح له بالانفلات وبالتالي الدخول في دوامة من العنف لا تنتهي .
هل يمكن أن تكون هذه الرعاية بمثابة “وصاية دولية”؟ أم أن الأمر لا يعدو عن كونه قلقاً دولياً من مخاطر الصراع في البلد وبحاجة إلى منقذين مهرة يحظون بثقة كافة الأطراف؟
يرى البعض أن وصول الأزمة اليمنية إلى أروقة مجلس الأمن الدولي والضغوط الكبيرة التي تمارس على كافة الأطراف للتهدئة والدخول في حوارات جادة، يعطي انطباعاً بأن الأزمة اليمنية صارت تحت الوصاية، فمجلس الأمن الدولي يتابع بشكل دقيق الأوضاع في اليمن عبر تقرير شهري يقدمه له مبعوث الأمم المتحدة جمال بن عمر، ويستخدم المجلس بين الحين والآخر “المطرقة” على رؤوس الجميع من أجل إنهاء المهمة، بل ويحذر من كشف أي طرف معرقل للمبادرة الخليجية .
البعض الآخر يرى أن اليمن محظوظ باهتمام العالم بأزمته، وأن الله قيّض لأبنائه من يمنع انزلاق البلد إلى حرب شاملة، وبالتالي فإنهم ينظرون إلى القضية من زاوية حرص الدول الكبرى على الاستقرار في البلد، لأنه ينعكس على استقرار وأمن العالم . مع ذلك فإن الأصابع الدولية لا تبدو بريئة مما يحدث في اليمن، ويحلو للبعض أن ينظر للمسألة من زاوية أن الحكومة القادمة ستكون أداة طيعة، بل ومرتهنة للخارج، على الرغم من أن النظام السابق كان ينسج علاقات مختلفة مع الخارج، ويكفي النظر إلى قصف الطائرات الأمريكية بلا طيار للأراضي اليمنية بحجة متابعة إرهاب تنظيم القاعدة، كواحدة من القضايا التي يتهم النظام السابقة بأنه كان وراء السماح لها بضرب هذه المناطق .
المستقبل
ليس هناك ما يمكن الجزم به فيما يتعلق بطريقة حل الأزمة اليمنية، لكن لا شك أن البلد مقدم على تطورات غاية في الأهمية والخطورة في آن واحد، فاليمنيون في أيديهم وحدهم حل مشكلات بلدهم، بالاستعانة بخبرات الغير ومساعدتهم .
صحيح أن الولايات المتحدة والغرب عموماً له حساباته، إلا أنه إذا وجد حرصاً من السياسيين على مستقبل بلدهم فإن المساعدة ستتحول إلى تعاون جدي ومثمر، أما إذا استمروا على حال الانقسام فإن التدخل في شؤونهم سيكون أمراً سهلاً، على اليمنيين أن يبحثوا عن قواسم تجمعهم، لا عن قضايا تفرقهم، حينها يمكن للآخرين أن يتجنبوا التدخل في أمورهم الداخلية .
في آلية البحث عن المستقبل الآمن يدخل اليمنيون اختبار الولاء لليمن الواحد ومصلحته، مع البقاء على خيار التنوع والتعدد في الوحدة، فدراسة تجارب ونموذج الدول الاتحادية في العالم يمكن أن يجعلهم يعثرون على نموذج يصلح لبلدهم، فالمشكلات اليوم تطوق الجميع، وعلى أصحاب القرار السياسي أن يبحثوا عن حل يجنب البلد المزيد من الخسائر، لأن التمترس خلف فكرة واحدة يمكن أن يجلب الدمار للجميع .
البحث عن صيغة جديدة ليمن جديد، يمن المستقبل، يبدأ من هذه اللحظات الحرجة في تاريخ بلد ذاهب إلى تمزق وشتات بعد سنوات من فرحة عربية بتحقيق أول وحدة في العالم العربي يخشى الكثيرون أن تكون أول دولة تتفكك إلى دول وقبائل، مع عدم إغفال الواقع الذي يعيشه اليمن من جراء انتشار السلاح والرغبة في انسلاخ مناطق عن دولة الوحدة، مثل الدعوة إلى “فك الارتباط” والانفصال والعودة إلى مربع الجنوب، إضافة إلى مخاطر الأوضاع في صعدة وخيار الانسلاخ عن الدولة والبحث عن كيان آخر .
اليمنيون معنيون قبل غيرهم بتقرير مصيرهم والبحث عن المستقبل الذي يجنب بلدهم مخاطر التمزق، وبيدهم وحدهم لا بأيدي غيرهم يستطيعون إعادة بناء ما دمر أو تدمير ما تبقى من شبح للدولة .